عوامل قيام النهضة الأوروبيّة
عوامل قيام النهضة الأوروبيّة،جرت العادة منذ القرونِ الماضية أن تمر البلاد والدول بأحوالٍ مختلفة وأوضاعٍ متباينة مضطربة تارةً ومزدهرة تارةً أخرى تبعاً لوجود جملة من الأسباب التي تُساهم مجتمعة إمّا في التطوير والتقدم أو في الاضطراب والتراجع.
النهضة الأوروبيّة:
النهضة الأوروبيّة أو عصر النهضة الأوروبيّة كما يُقال له هو تلك الحُقبة الزمنية التي شَرَعت تُطِلُ بِملامحها ومظاهرِها منذ القرن الرابع عشر للميلاد ممتدة لفترة طويلة من الزمن، عَقبت في ظهورها العصور الوسطى أو ما كانت تعرف آنذاك بالعصور المظلمة لشدّة مرارةِ أيامِها وقساوتِها والعناء الذي كابَده الأفراد حينَها بسبب الحروب المندلعة والأوبِئة المتفشيّة التي أنهت حياة الكثير منهم.
فكانت النهضة الأوروبيّة ولادةً لعهدٍ جديدٍ حافلٍ بالتطور والازدهار ومُفعم بالنشاط والتجديد الشامل لمختلف الأصعدة، اتسعَت فيه آفاق التجدد كثيراً لتطال أفكار الفرد وآرائه واتجاهاته الفكرية وأسلوب حياته وطريقة أدائه لأدواره، وتلقائياً يتبادر لأذهاننا لدى سماع كلمة نهضة بالتطور والرُقي حيث لمست المجتمعات الأوروبيّة رقياً وتطوراً ملموساً في تلك الفترة طالَ جميع المستويات من ثقافة واقتصاد وعلوم وغيرها.
لكن على الرغم من ذلك لم يخلُ الأمر من أن يكون لها آثار سلبية خصوصاً مع الطبقات الفقيرة والمجتمعات الضعيفة التي وجدت نفسها مُهمشة الهويّة ومُرغمة من قبل الفئات الأقوى منها على السير مع معالم النهضة الأوروبيّة والمظاهر التي تجلَّت بها.
معالم النهضة الأوروبيّة:
تنوّعت مظاهر النهضة الأوروبيّة وتجلَّت في الجوانب التالية:
تراجُع وتدهور النظام الإقطاعي خلال النهضة الأوروبيّة ويرجع ذلك إلى مقتل أعداد كبيرة من الإقطاعيين في الحروب مع الصليبيين أمّا ما تبقى منهم فقد اتجه نحو العمل في التجارة ممّا أدّى إلى قلة الإقطاعيين القادرين على السيطرة على المزارعين والتحكم بهم فكانت النتيجة انهيار النظام الإقطاعي وتلاشيه بشكل تام في عصر النهضة، ولعلّ هذا المظهر من أبرز معالم النهضة الأوروبيّة.
إعادة إحياء الأبحاث والدراسات القديمة عقب افتتاح القسطنطينية وهِجرة علمائها وأهل العلم بها إلى الدول الأوروبيّة فأخذوا معهم الفكر والعلم ذاته، ليس ذلك فقط بل حاولوا تجديده وتحديثه، فساهموا في بثِ المعرفة وشجعوا الأفراد على القراءة والتقصي، أولئك الأفراد الذين أبدُوا اهتماماً لافتاً بالكتبِ القديمة كالكتب اليونانيّة والإغريقيّة.
اكتشاف الدول الجديدة التي جاء ظهورها نتيجة لمجموعة من الأسباب التي اجتمَعت مع بعضها مؤديَة إلى ظهور دول حديثة ليس للإقطاع مكاناًنهائياً فيها، ومن تلك الأسباب نذكر بزوغ أفكارٍ جديدة تبنّاها كلٍ من المفكر الإيطالي “ميكافيلي” والمفكر الفرنسي “جون رودان” والإنجليزي “هوبس”.
بالإضافة إلى ذلك تعدُد الكشوفات الجغرافية التي نَجمَ عنها تدفقاً هائلاً في الخيرات والثروات، فضلاً عن استثمارِ المناجم الخاصة بالذهب والفضة وتلاحم أفراد الشعب وتكاتفهم والمساندة التي بذلها أفراد الطبقات الوسطى تجاه أفراد الطبقة الثريّة لينتج عن ذلك شعب مُتضافِر مُتلاحِم استطاع بترابطه المُبهِر أن يبدِد الوجود الإقطاعي ويُزعزع استقرارَه ويُمحي كيانَه ليتوحد الشعب آنذاك وبتحدث بلغة موحدة أيضا.
النهضة التي لمست المجال الفني وسُميَت حينها بالنهضة الفنية فتمثلت بظهور ألوانٍ عديدة من الفنون كالنحت والعمارة والزخرفة والموسيقى والتي تميزت بقدرتها على الخلط بين الفنون القديمة والابتكار في إدخال تعديلات جديدة.
النهضة في العلم والمعرفة والتي بدأت على أيدي علماءٍ ومفكرين اعتمدوا البحث العلمي والتقصي وسيلة في تثبيت قواعد العلم الصحيح.
عوامل قيام النهضة الأوروبيّة:
اجتمعت الكثير من العوامل مع بعضها البعض وساهمت في إيصال الدول الأوروبيّة إلى حالة الارتقاء والازدهار الذي تنعمَّت به خلال العصر المذكور، حيث تجسدَت تلك العوامل فيما يلي:
أولاً: الإرث الحضاري الذي خلّفه العرب في صقلية: استطاع المسلمون من خلال ما أوتو من قوةٍ وهمّةٍ أن يتركوا أثراً طيباً في صقلية، والذي أقل ما يُمكن أن يُقال عنه أنّه قمّة في العظمة والروعة، واتضحَ ذلك الأثر جلياً في عظمة العمران الذين صممّوه وفخامة المباني التي شيّدوها، ليس ذلك فحسب بل كانت الحركة التجارية حينها نشيطة نشاطاً استثنائياً، أما بالنسبة للمجال الزراعي فقد أدركَ المسلمون ضرورة إعادة إصلاح الأراضي وزراعتها وإحيائها من جديد.
وبفضلهم فقد عرفت صقلية ألواناً مختلفة من العلوم والفنون والآداب والدين ليشهد التعليم فيها تطورات كبيرة وصلت إلى درجة التعليم العالي.
ثانياً: الحروب والهجمات ضد الشرق: كانت الحضارة في الشرق حضارة عريقة متميزة إلى حدٍ كبير جعلها قادرة على التأثير في الحضارات الأخرى وهذا ما حصل لدى الصليبين، الذين حملوا معهم من الشرق ما تأثروا به خلال شنِ هجماتهم ومعاركهم، فكان ذلك التأثرمُرفقاً بتغييرات شاملة ومحدثاً تطورات جذرية لدى المجتمع الأوروبي.
تجلَت تلك التطورات في تدهور الأنظمة الإقطاعية وما نتجَ عن تدهورها من تحرُر المزارعين والعاملين من سيطرة الطبقات الأقوى، لم يقتصر الأمر على ذلك فقط بل استفادت أوروبا بشكل كبير من العلوم التي اشتهر بها العرب في الشرق لا سيما علم الجغرافيا والملاحة البحرية باعتبارهما يخدمان الكشوفات الجغرافية التي بدورها أتاحت لهم اكتشاف وإيجاد مسالك تجارية جديدة، إلى جانب ذلك كلّه كان للاقتصاد الأوروبي أيضاً نصيب في التأثر بالاقتصاد الشرقي فأدخلوا إلى بلدانهم وأشاعوا في أسواقِهم الكثير من المنتجات والبضائع كالسكر والزجاج وغيرها لتشهد الحالة التجارية تألقاً وازدهاراً غير مسبوقين.
ثالثاً: فتح القسطنطينية (اسطنبول حاليا): عقب سقوط مدينة القسطنطينية على أيدي العثمانيين الذين دخلوا إليها عام ١٤٣٥ هجري لم يكنْ أمام جهابذة العلم والمفكرين المسيحيين سوى الابتعاد والهجرة باتجاه أوروبا والمكوث في الدول الأوروبيّة التي احتضنت علمهم وفكرهم واستوعبت أفكارهم واعتنت بهم حتى استطاعوا من خلال علومهم إثراء أوروبا بالمعرفة والعلم وتحريرها من جمودها الفكري.
رابعاً: النهضة الفنية: كان للفن في عصر ما قبل النهضة دوراً هاماً في تطوير العمران والبناء من خلال الحركة الفنية المشهودة في القرن الثاني عشر للميلاد، ولم تتوقفْ مساهمة الفن والفنانين في تلك الفترة فقط وإنما استمرت مع مرور الزمن لتتحول إلى عاملاً رئيسياً ومسبباً مباشراً في قيام عوامل قيام النهضة الأوروبيّة، في دول أوروبا، حيث انقلبَ الفن من استنساخ ونقل إلى تعبير عن الفكر والخيال.
خامساً: ظهور اللغات: من أهم وأبرز اللغات التي عاودَت الظهور في عصر عوامل قيام النهضة الأوروبيّة،هي اللغة اللاتينية القديمة التي تألقت آنذاك بسبب محبة الناس لها وإعجابهم بها وسعيهم نحو تقليدها، إلى جانب تضمنها للمعاني الجميلة والأفكار الرائعة التي يستطيعون الاستفادة منها في معيشتهم.
سادساً: ظهور الطباعة: كان لاكتشاف الطباعة وظهورها في القرن الخامس عشر للميلاد أثراً كبيراً في إعادة إحياء التراث الحضاري القديم وتجديد عراقتِه وأصالته، فضلاً عن إسهامها في الانتشار الواسع للكتب والمجلدات وتحريرها من أيدي الطبقات الثرية والحاكمة وتوفيرها في أيدي الجميع، فكان لعوامل قيام النهضة الأوروبيّة، دوراً فعالاً في تنشيط الفكر والحضارة مخرجاً الناس من الركود الذي كان ينتابهم خلال فترة العصور الوسطى أو ما أطلقوا عليه حينها اسم العصور المظلمة.
إذا أدت تلك الأسباب مُجتمعة مع بعضها البعض إلى ولادة عهد جديد من الحداثة والتطور، العلوم والمعارف الجديدة، التألق والازدهار الشامل لمختلف الجوانب شهدته أوروبا، فكانت عوامل قيام النهضة الأوروبيّة، فيها نقلة نوعية وتحول جذري من الركود والتخلف إلى الحيوية والنشاط والرقي.