الخطابة في العصر الجاهلي
نشأة الخطابة
كان في العصر الجاهلي الكثير من المواضيع والأمور التي استدعت ظهور الخطبة في ذلك الوقت، والخطابة كلمةٌ مُشتقّة من الخطبة، وتعني أحد أنواع النثر الفنِّي في الأدب العربي عامَّةً، والتي ذاع صيتها في العصر الجاهلي خاصَّةً.
وقد ساهمت الحياة التي كان يعيشها العرب في ذلك الوقت على ظهور الخطابة، والتي اتّخذت مواضيعها من المشاكل والظروف الحياتيَّة التي كانوا يعيشونها، وكانت خُطّب الرِّثاء والوصايا والزَّواج، والحث على الحروب، وغير ذلك الكثير من أنواع الخطب المختلفة، وكانت الخطابة تعتبر لغةً وفنَّاً قائماً بذاته.
إنَّ الحاجة للخطابة في العصر الجاهلي أتاحت لها أسباباً عديدة جعلتها مؤهَّلةً للانتشار في ذلك العصر، وهي كالتالي:
- حُريّة الرَّأي والتّعبير: تمتّع أدب العصر الجاهلي بالحُريَّة، فكان أدباءهم يتنعَّمون بالرَّاحة، أحراراً لا يتقيّدون بأيّ قيد.
- كثرة النزاعات والحروب بين الجاهليين: حيث كان لا بُدّ لهذه الحروب من التنظيم والدَّعوة، مِمَّا أدَّى إلى ظهور الخطابة الحربيّة.
- مجالس فنيَّة: كانت تُقام في الخيام والأسواق، وفي ساحات الأُمراء؛ من أجل إظهار الموهبة القوليّة، والقدرة البيانيّة لدى الجاهليين.
- المقدرة البيانيَّة: استطاع الجاهليُّون امتلاك مقدرةً بيانيَّةً كبيرة، إضافةً لفطرتهم على الأدب والبيان وحُسن القول.
أنواع الخطب الجاهليَّة
تناولت الخطابة بين أدباءها أغراضاً مُتعدِّدةً الجوانب، وذلك وِفقاً للموقف الذي تعرضوا له ووضعوا فيه، ومن هذه الأغراض الآتي:
- خطب الوفود:
وهذا النوع من الخطب كان يُستخدم عندما يأتِ وفدٌ إلى الأمير، فيرتجل رئيس الوفد الزَّائر خطبةً يُوجّهها إلى أمير الغساسنة أو المناذرة، ويسعى الخطيب إلى إظهار ما يُعانيه قومه من آلامٍ ومُشكلات في هذه الخطبة، ليتوصّل الأمير إلى حلٍّ يُساعدهم به.
- خطب النُّصح:
وهي الخطب التي يتوجّه بها الخطيب إلى القوم عامَّةً، فبعض هذه الخطب كانت تُقام في الأسواق، فيبدأ الخطيب في الجَّهر ناصحاً كُلّ الذين يسمعوه بما فيه خيرٌ لهم، وعلى سبيل الذِّكر: خطبة (قس بن ساعدة في سوق عكاظ)، ويزيد على ذلك ما كان يُلقيه الخطيب لينصح أهله وعشيرته والمُقرَّبين، مثل ما يُروى عن أكثم بن صيفي وعامر بن الظّرب.
- خطب الزَّواج:
كان من العادات الجاهليَّة إذا ما أراد أحدٌ ما الزّواج، يأتِ رجلاً من قومه فيرتجل، ويُلقي خطبةً يطلب فيها الفتاة المُرادة للزواج باسم العريس في تلك الخطبة، حيث أنَّ هذا النوع من الخطابة كان مُنتشراً، لا سيما لدى الأشراف من الجاهليين، والذي اشتهر في هذا النوع من الخطب أن يُرد الطرف الآخر، فيُطيل الخاطب ويُقصّر المخطوب، ونذكر بعض من الأمثلة: خُطبة أبي طالب عندما تقدّم لطلب يد السيِّدة خديجة للنَّبي (عليه الصلاة والسلام)، وخطب بقصد إثارة الحمية وإيقاظ الحماس وتثبيت القلوب، لأنَّ المُجتمع الجاهلي كان مجتمعاً قبليَّاً، بحيث لكلَّ قبيلة لها قائدٌ يرأسها ويُسيّر أمورها، والقبائل الجاهليّة كانت على صراعٍ مستمر، وحروبٍ كثيرة، لذلك كان من الطبيعي أن تظهر الخطابة الحماسيّة التي تُشجّع على خوض الحروب، وتُحمسّ للدِّفاع عن الأرض والعرض، ونذكر مثال على ذلك ما جاء في خطبة هانئ بن قبيضة.
- خطب الصّلح:
وجود الخلاف الدَّائم والمستمر بين القبائل، حيث كان من المفروض والطبيعي أن يحصل حروب مستمرَّة بين قبيلتين، فيأتِ حكيمٌ منهم يتولّى الأمر بينهم، ويفصل الخلاف ويصك الاتّفاق بينهم بحكمته، وأكثم بن صيفي أكثر من اشتهر بهذا النَّوع من الخطب.
- خطب المفاخرة والمنافرة:
يتحدّث شخصين في أمرٍ ثُمَّ يختلفان، فيُظهرُ كلٌّ شخصٍ منهما ما لديه من نقاطٍ للمَفاخرة، ثمّ يحتكمان إلى شخص أو جماعة يَدلون عليهم بمفاخرهم، مثال على ذلك : ما جاء في مُنافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، حتَّى احتكما في منافرتهما إلى هرم بن قطبة.
- خطب الرِّثاء والعزاء:
إن الإنسان تظهر مشاعره عندما يتأثّر بالشديد من الأمور، لذلك كان طبيعيَّاً أن تُقام الخطب في العزاء، وعندها يُبيّن الخطيب ما سبّبه موت الفقيد من حرقة تركها لمن ورائه، مثل ما جاء في خطبة أكثم بن الصيفي معزياً عمرو بن هند في أخيه.
- خطب الوصايا:
وهي عندما يشعر الشخص بدنوِّ أجله، وسواء كان شخصاً ذا قيمة بين أهله، أو رئيساً للقبيلة، فيتوجّه الخطيب لقومه أو أهله بخطبةٍ يُوصيهم فيها بما يُريد أن يراهم عليه من حسن الحال، كوصيَّة ذي الأصبع العدواني لابنه.
خصائص الخطابة في العصر الجاهلي
امتازت الخطابة الجاهليَّة بالعديد من الخصائص، نذكر منها الآتي :
- خصائص اللفظ:
حيث امتازت ألفاظ الخطابة الجاهليَّة بعدَّة خصائص، منها قوّة الألفاظ وجزالتها، وربَّما تصل إلى الصّعوبة؛ لأنّها مُستمدّة من واقعٍ قاسٍ كانوا يعيشونه، وامتلاء الألفاظ بالكثير من الكلمات الحوشيَّة الغريبَّة، وجميع ألفاظهم تُستخدم في نفس دلالتها، ولا تتعدّى إلى دلالاتٍ أخرى.
- خصائص المعاني:
امتازت المعاني الجاهليَّة للخطابة بأنَّها سهلةً وفطريَّة، تنشأ من المواقف المصاغة لأجله مباشرةً، فلا يُحلّلون أو يُفكّرون قَبل عرضها، إنَّما يعرضونها كما هي دون تغيير، ولعلّ غياب العلوم هو الذي جعل من الخطبة بعيدة عن التحليل ومتماسكة، فكل فكرة فيها لا تدلّ على الأخرى، إنّما متعدّدة الأجزاء.
- كثرة الحِكم والأمثال:
هي المصدر الذي يعتمدون عليه في اتّخاذ المعلومات والقواعد الحياتيَّة في تجربتهم الإنسانيَّة، وليس بالاعتماد على العلم والتعمّق في الفهم.
وكان أسلوب الخطابة عند الجاهليين في معظم خطبهم تفتقر إلى المُقدّمة والخاتمة؛ لأنّها مرتجلةً وتفتقر إلى الترتيب والتنسيق، وكان أُسلوبهم في الكلام خالٍ من التلوين البديعي، فلا تَكلّف فيها ولا تصنُّع، وخطبهم مسجوعة مؤلّفةً من جملٍ مزدوجة، وأحياناً تكون مرسلة، فمعظم خطبهم اتُّصفت بالقصر.
كما كان للخطباء الجاهليين سنن عند إلقاء الخطب، ومن تلك السنن، وقوف الخطيب على مكانٍ مرتفعٍ، وارتداء الخطيب لِباساً خاصَّاً كالعمامة، فهي ترفع من قدره، إضافةً لحمل الخطيب بيده عصاً يتوكأ عليها.
أبرز خطباء العصر الجاهلي
كعب بن لؤي، الجد السابع للنَّبي محمّد، والذي كان يخطب في العرب عامَّةً، وكان له شأنٌ كبيرٌ لدى الجاهليين.
أكثم بن صيفي، من أشهر الحُكَّام العرب في الجاهليّة، وهو من المعمّرين.
عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أسياد العرب.
علقمة بن علاثة الكلابي، وهو أحد فرسان الجاهليَّة، ومن أشراف الجاهليين، كما اشتهر بمنافرته الشّهيرة مع ابن عمّه عامر بن الطّفيل.
مكانة الخطابة في العصر الجاهلي
حملت الحياة في العصر الجاهلي الكثير من الأحداث التي أدَّت لازدهار الخطابة، ووصولها لمرتبةً تساوي الشّعر؛ ولأنّ حياتهم كانت مليئةً بالنِّزاعات، فقد أرتفعت منزلة الخطيب، فكان حدوث بعض المواقف والأمور التي تطرأ فجأةً تحتاج إلى قولٍ أو توجيه، فيرتجل الخطيب الخطب في ذلك المقام، وكان فنّ النثر لا يُقيّد الأديب كالشّعر، وبسبب حاجة الأديب إلى راحة كلاميّة كي يستطيع التعبير عمّا يجول في خاطره من أمور، مِمَّا فتح المجال لتتبوَّأ الخطابة منزلةً رفيعةً في العصر الجاهلي.
نماذج من خطب العصر الجاهلي
- خطبة أبي طالب، عمِّ النبي محمد في زواجه عليه الصلاة والسلام:
“الحمد لله الذي جعلنا من ذريَّة إبراهيم، وزرع إسماعيل، و جعل لنا بلداً حراماً، و بيتاً محجوجاً، وجعلنا الحُكَّام على الناس، وإنَّ محمَّداً بن عبد الله ابن أخي لا يوزن به فتى من قريش إلا رجّح به بركةً وفضلاً وعدلاً ومجداً ونُبلاً، فإن كان في المال مُقلِّاً فإنّ المال عاريةٌ مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثله، وما أردتم من الصّداق فعليَّ“.
- خطبة هانئ بن قبيضة قبيل واقعة ذي قار حيث قال:
“يا معشر بكر، هالكٌ معذور خيرٌ من ناجٍ فرور، إنّ الحذر لا يُنجِّي من القدر، وإنّ الصَّبر من أسباب الظّفر، المنيّة خيرٌ من الدّنية، واستقبال الموت خيرٌ من استدباره، والطعن في ثغر النّحور أكرم منه في الإدبار والظهور، يا آل بكرٍ قاتلوا، فما من المنايا بدّ“.
وهناك كتبٌ تحدَّثت عن الخطابة في العصر الجاهلي، نذكر منها:
- الخطابة أصولها تاريخها في أزهر عصورها عند العرب، من تأليف محمد أبو زهرة، وقد أصدر لأوّل مرَّة عام 1934م، وهذا الكتاب تناول تعريف فنّ الخطابة شرحاً وتفصيلاً، لينتقل إلى الخطابة منذ نشأتها في العصر الجاهلي إلى عصرنا الحالي.
- كتاب الأدب الجاهلي وبلاغة الخطاب، تأليف عبد الإله الصّائغ، الصادر في عام 2000م، وتناول الكتاب مُختلف الفنون الأدبيّة في العصر الجاهلي بالتّفصيل، إضافةً لتحدُّثه عن الفنون النثريّة، وعن أشهر روّاد فنِّ الخطابة في العصر الجاهلي.