اُلشِّقَاقُ المَحْتُومُ بَيْنَ اُلْحَاكِمِ واُلْمَحْكُومِ
مَقَالَةٌ مِنْ تَأْلِيفِ لطفي خير الله . . .
1) مُقَدِّمَةٌ :
إِنَّ اُلنَّاظِرَ فِي عَلاَقَةِ اُلْحَاكِمِ وَ اُلْمَحْكُومِ قَدْ يَتَبَيَّنُ بِأَنَّ اُلْخِلاَفَ بَيْنَهُمَا مُقِيمٌ، والوِفَاقَ نَادِرٌ عَزِيزٌ. وَاُلتَّفْسِيرُ اُلظَّاهِرُ لِذَلِكَ أَنَّ اُلرَّاعِيَ إِذَا مَا اسْتَبَدَّ، أَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِاُلْعَدْلِ، أَوْ اتَّخَذَ بِطَانَةَ سُوءٍ تَسْتَأْثِرُ بِخَيْرَاتِ اُلْبِلاَدِ وَاُلْعِبَادِ، أَوْ وَعَدَ فَلَمْ يَفِ، أَوْ كَانَ كَاذِبًا، فَهَلُمَّ جَرًّا، سَخَطَتْ عَلَيْهِ اُلرَّعِيَّةُ، وقد تُقَابِلُهُ بِاُلْعِصْيَانِ وَاُلْخَلْعِ. إِذًا، فَعِنْدَ هَذَا اُلتَّفْسِيرِ إِنَّمَا اُلْخِلاَفُ بَيْنَ اُلْحَاكِمِ وَاُلْمَحْكُومِ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ، لَوْ زَالَتْ، عَادَتِ اُلْصِّلَةُ بَيْنَهُمَا إِلَى الأَصْلِ، أَعْنِي الوِفَاقَ وَاُلرِّضَا. وَإِنْ لَمْ نَرُمْ ظَاهِرَ الأَمْرِ، وابْتَغَيْنَا اُلتَّدْقِيقَ، وَالتَّمْحِيصَ، فَسَنَجِدُ اُلْوَصْفَ عَلَى ضِدٍّ مِنْ ذَلِكَ إِطْلاَقًا: عَلَى مَعْنَى أَنَّ اُلرِّضَا مِنَ اُلرَّعِيَّةِ عَلَى رَاعِيهَا حَالٌ غَرِيبَةٌ، بَلْ إِنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهَا مَعَهُ إِنَّمَا هُوَ السُّخْطُ وَالشِّقَاقُ يَدَ اُلدَّهْرِ.
لِأَجْلِ هَذَا فَمَا أَنَا بِذِي غُلُوِّ لَوْ جَزَمْتُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَكُونُ خَصْمٌ لِحَاكِمٍ، أَعْنِي مَحْكُومًا، قَدْ حَلَّ مَحَلَّهُ، أُرِيدُ اُلْحَاكِمَ، إِلاَّ وَخَامَرَ بَاطِنَهُ نَوْعُ نَدَامَةٍ لِمَا كَانَ يَعِيبُهُ عَلَى سَلَفِهِ مِنْ مَعْنًى لَمَّا قَابَلَهُ بِمَعْنَاهُ إِذْ هُوَ مَحْكُومٌ، فَقَضَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جُورٌ وَبَغْيٌ، وَالآنَ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ : بَلْ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ حَقِيقَةِ الحُكْمِ وَطَبِيعَتِهِ، وَفِي نَفْسِهِ تَوَجُّسٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا طَعَنَ بِهِ عَلَى اُلْحَاكِمِ الأَوَّلِ، جَهْلٌ مِنْهُ وَعِنَادٌ وَتَجَنٍّ. كَذَلِكَ يُرَى دَائِمًا اُلْمَحْكُومَ الخَصْمَ، إِذَا مَا ارْتَفَعَ في اُلْحُكْمِ، عَجِلَتِ اُلعَامَّةُ إِلَى جَفَائِهِ وَسُخْطِهَا عَلَيْهِ، بَعْدَ مَا كَانَتْ تَوَدُّهُ كَثِيرًا، وَتُطِيلُ الاِسْتِبْشَارَ بِهِ.
2) عَلاَقَةُ الحَاكِمِ بِاُلْمَحْكُومِ هِيَ عَلاَقَةُ اُلْكُلِّ بِاُلْجُزْءِ
أَمَّا بَيَانُنَا لِمَا قَرَّرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ الصِّلَةِ بَيْنَ اُلْحَاكِمِ وَاُلْمَحْكُومِ أَنَّهَا شِقَاقٌ، وَجَفَاءٌ، وَغَيْرُهُمَا عَارِضٌ فَقَطْ، فَبِقَوْلِنَا إِنَّ حَقِيقَةَ اُلْعَلاَقَةِ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هِيَ عَلَى صُورَةِ اُلْعَلاَقَةِ بَيْنَ اُلْكُلِّ وَاُلْجُزْءِ. ونَأْخُذُ مِثَالاً لِذَلِكَ : الأَصْبَاغُ، وَهَذِهِ أَجْزَاءٌ، وَرَسْمٌ مَا، كَشَجَرَةٍ، وَهْيَ كُلٌّ حَاصِلٌ بِتَأْلِيفٍ لِلْأَجْزَاءِ اُلصِّبْغِيَّةِ. فَاُلشَّجَرَةُ اُلْمَرْسُومَةُ إِذْ هِيَ كُلٌّ مِنَ الأَصْبَاغِ عَلَى تَرْتِيبٍ مَا، وَلَيْسَ عَلَى أَيِّ تَرْتِيبٍ، فَلأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَيْءٍ طَبِيعِيٍّ، اِحْتَاجَتْ إِلَى فَاعِلٍ مِنْ خَارِجٍ يُسَمَّى رَسَّامًا، شَأْنُهُ أن يُعَالِجَ الأجزَاءَ الصِّبْغِيَّةَ، ويَنْظُرَ إِلَيْهَا لاَ لِذَاتِهَا، بَلْ مِنْ حَيْثُ هِيَ دَاخِلَةٌ في تَأْلِيفِ الكُلِّ الَّذِي هُوَ اُلشَّجَرَةُ. إِذًا فَاُلْمَوْضُوعُ الأَوَّلُ لِفِعْلِ الرَّسَّامِ إِنَّمَا هُوَ اُلكُلُّ، وَوُجُودُ الأَجْزَاءِ عِنْدَهُ، وَ مُعَامَلَتُهُ إِيَّاهَا إِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِصُورَةِ اُلْمَوْضُوعِ، وَلَيْسَتْ هِيَ، أَعْنِي الأَجْزَاءَ، بِمُقْصُودَةٍ قَصْدًا أَوَّلاً.
فَلَوْ تَوَهَّمْنَا أَنَّ اُلأَصْبَاغَ ذَاتُ عَقْلٍ شَاعِرَةٌ بِذَاتِهَا، فَرُبَّمَا قَابَلَتْ إِرَادَةَ الرَسَّامِ بِإِرَادَتِهَا. فَالرَسَّامُ إِنَّمَا عَيْنُهُ عَلَى اُلْكُلِّ، وَالأزْرَقُ الجُزْئِيُّ مَثَلاً، إِنَّمَا تَكُونُ عَيْنُهُ حِينَئِذٍ عَلَى ذَاتِهِ. فَمَا يُدْرِكُهُ الصِّبْغُ اُلْجُزْئِيُّ الأزْرَقُ، غَيْرُ مَا يُدْرِكُهُ أَلْبَتَّةَ، مُدْرِكُ الكُلِّ، الرَّسَّامَ*. وتَحْصِيلُ اُلْكُلِّ، كَصُورَةِ اُلشَّجَرَةِ تَعْلُو زُرْقَةَ السَّمَاءِ، تَقْتَضِي أَنْ يُسَلِّطَ اُلرَّسَّامُ جُزْءً مِنَ اُلأَخْضَرِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الأَزْرَقِ.
وَهَاهُنَا فَقَـدْ * “الرَّسَّامّ” مُتَعَلِّقٌ بِمُدْرِكِ اُلْكُلِّ، وَنَصْبُهُ عَلَى الاِخْتِصَاصِ، كَقَوْلِكَ “نَحْنُ اُلْعَرَبَ، نُقْرِي اُلضَّيْفَ.”.
يَسْخَطُ الأَزْرَقُ، ولَنْ يَرَى من مُنْشِئِ اُلْكُلِّ، مُنْشِئًا لِلْكُلِّ، لأَنَّ اُلْجُزْءَ لَيْسَ يَسَعُهُ بِحُكْمِ اُلْحَقِيقَةِ أَنْ يُدْرِكَ اُلْكُلَّ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَكَانَ سَيَقْضِي، أي الأَزْرَقَ، حَتْمًا بِأَنَّ اُلرَّسَّامَ إِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ لَهُ حِينَمَا سَلَّطَ عَلَيْهِ اُلصِّبْغَ الأَوَّلَ اُلأَخْضَرَ، وغَلَّبَهُ عَلَيْهِ. لِذَلِكَ كَانَ اُلشِّقَاقُ بَيْنَ اُلْجُزْءِ وَاُلكُلِّ هُوَ مَعْنًى تَكْوِينِيًّا، وَلَيْسَ بِعَارِضٍ. لأَنَّ اُلْجُزْءَ لَيْسَ لَهُ الإِحَاطَةُ إِطْلاَقًا بِاُلْكُلِّ، إِذْ لَوْ أَحَاطَ بِهِ لَغَدَا كُلاًّ، وَلَمْ يَبْقَ جُزْءً.
إِنَّا، إذًا، فَعَلَى هَذَا اُلْمِثَالِ يُمْكِنُنَا أَيْضًا أَنْ نُفَسِّرَ عَلاَقَةَ اُلْحَاكِمِ بِاُلْمَحْكُومِ :
إِذْ مَعْلُومٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ أَنَّ اُلْحَاكِمَ فِي اُلْمَدِينَةِ إِنَّمَا نَظَرُهُ عَلَى اُلْكُلِّ. فَلَيْسَ مَا يَرْعَاهُ بِهَا، مَثَلاً، أَمْنَ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو عَلَى اُلْخُصُوصِ، بَلْ أَمْنَ كُلِّ اُلنَّاسِ؛ وَلَيْسَ مَا يَرْعَاهُ قُوتَ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو عَلَى اُلْخُصُوصِ، بَلْ قُوتَ كُلِّ اُلنَّاسِ؛ وَلَيْسَ مَا يَرْعَاهُ صِحَّةَ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو عَلَى اُلْخُصُوصِ، بَلْ صِحَّةَ كُلِّ اُلنَّاسِ، إِلَى غَيْرِهِ. وَقَوْلُنَا : كُلُّ النَّاسِ، لاَ نَعْنِي بِهِ فَرْدًا فَرْدًا عَلَى جِهَةِ اُلْجَمْعِ وَالإِحَاطَةِ، فَذَلِكَ بِعَيْنِهِ هُوَ مُرَاعَاةٌ مِنَ اُلْحَاكِمِ لِشَخْصِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو. بَلِ اُلْمَقْصُودُ بِاُلْكُلِّ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اُلْحَاكِمِ إِنَّمَا التَّأْلِيفُ اُلْمُمْكِنُ الَّذِي يَكُونُ عُمُومُهُ عَلَى الأَفْرَادِ، وَبَقَاءُهُ فِي الزَّمَنِ، أَوْسَعَ مِنْ غَيْرِهِ. فَمَثَلاً إِنْ كَانَ لِلرَّاعِي أَلْفَ أَلْف أَلْف دِينَارًا، وَفَرَّقَهَا فِي يَوْمٍ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَهَذَا كُلٌّ، وَقَدْ كُفِيَتْ بِهِ كُلُّهَا حَاجَتُهَا فِي ذَلِكَ اُلْيَوْمِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَاُلكُلُّ اُلثَّانِي وَهْوَ أَنْ يَبْنِيَ بِذَلِكَ اُلْمَالِ بِعَيْنِهِ، مَثَلاً، مَصْنَعًا، يَسْتَرْزِقُ مِنْهُ مَائَتَا بَيْتٍ، لِسِنِينَ طَوِيلَةٍ، وَإِنْ جَاعَ آلاَفٌ آخَرُونَ، بَيْنَ وُجُودِ اُلْمَالِ وإِنْشَاءِ اُلْمَصْنَعِِ، فَهُوَ أَحْكَمُ، واُلْحَقِيقُ بِأَنْ يَخْتَارَهُ اُلْحَاكِمُ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتهِ. لِذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّ اُلكُلَّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ نَظَرِ اُلْحَاكِمِ بِالأصَالَةِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ مَجْمُوعِ الأَفْرَادِ كُلِّهَا، بَلِ اُلتَّأْلِيفُ اُلْمُمْكِنُ وَالأَفْضَلُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ وَبَقَائِهِ فِي الزَّمَنِ، ويُسْرِ اِسْتِعْمَالِهِ. لَكِنَّ اُلْمَحْكُومَ مِنْ حَيْثُ مَا هُوَ مَحْكُومٌ لَيْسَ لَهُ نَظَرٌ إِلاَّ إِلَى نَفْسِهِ، وَهْوَ مَتَى مَا رَامَ أَنْ يُقَيِّمَ حَاكِمًا، فَبِاُلْاضْطِرَارِ إِنَّمَا يُقَيِّمُهُ بِحَسَبِ مَا أَفَادَ غَرَضَهُ هُوَ، أَوْ لَمْ يُفِدْهُ. وَلَكِنْ قَدْ قُلْنَا أَنْ مُدْرَكَ اُلْجُزْءِ غَيْرُ مُدْرَكِ اُلكُلِّ، وبِتَنْزِيلِنَا لِلْقَاعِدَةِ عَلَى مَسْأَلَتِنَا قُلْنَا : إِنَّ مُدْرَكَ اُلْحَاكِمِ الَّذِي عَيْنُهُ عَلَى اُلْكُلِّ، هُوَ غَيْرُ مُدْرَكِ اُلْمَحْكُومِ الَّّّذِي لاَ عَيْنَ لَهُ إِلاَّ عَلَى ذَاتِهِ. فَيَلْزَمُ إذًا مَا قَرَّرْنَا صَدْرَ اُلْمَقَالَةِ أَنَّ اُلشِّقَاقَ بَيْنَ اُلْحَاكِمِ وَاُلْمَحْكُومِ لَيْسَ باُلْحَالِ اُلْعَارِضَةِ، بَلْ إِنَّهَا أَصْلِيَّةٌ تَكْوِينِيَّةٌ مَعْرِفِيَّةٌ.
3) اُلْعِبَارَةُ عَنِ اُلْمَعْنَى بِعَيْنِهِ بِلُغَةٍ ظَاهِرِيَّةٍ
وَأُرِيدُ بِعَيْنِ اُلْمَعْنَى : اُلشِّقَاقَ اُلأَصْلِيَّ بَيْنَ اُُلْحَاكِمِ وَاُلْمَحْكُومِ. وَطَرِيقَةُ اُلْبَيَانِ الآنِفِ مَنْطَقِيَّةٌ. وَاُلْمُزْمَعَةُ الآنَ ظَاهِرِيَّةٌ :
فَمِنْ وُجُوهِ اُلْقِسْمَةِ لِلْوُجُودِ اُلْمَعْلُومِ بِاُلْحِسِّ، قِسْمَتُهُ إِلَى طَبِيعِيٍّ وَصِنَاعِيٍّ. وَكِلاَهُمَا وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ، فَاُلْكُلُّ فِي اُلْمَوْجُودِ اُلطَّبِيعِيِّ، كَبَدَنِ الإِنْسَانِ، إِنَّمَا هُوَ وِحْدَةٌ طَبِيعِيَّةٌ، ذَاتُ اِنْفِصَالٍ تَامٍّ عَنِ كُلِّ اِعْتِبَارٍ ذِهْنِيٍّ. أَيْ أَنَّ أَصْلَ اُلْوِحْدَةِ فِي اُلْمَوْجُودِ اُلطَّبِيعِيِّ إِنَّمَا هُوَ صُورَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ فِيهِ، وَلَيْسَ مَعْنًى يَخْلَعُهُ اُلذِّهْنُ مِنْ خَارِجٍ عَلَى جِهَةِ الاعْتِبَارِ، أَوِ التَّأْوِيلِ. أَمَّا اُلْمَوْجُودُ اُلصِّنَاعِيُّ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبَ الأَجْزَاءِ وَمَوْصُولَهَا، كَاُلْكُرْسِيِّ مَثَلاً، فَهَذِهِ اُلصُّورَةُ صُورَةُ اُلْكُرْسِيَّةِ هِيَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى اُلطَّبِيعَةِ، وَلَيْسَ لَهَا تَحَقُّقٌ فِي عَيْنِ ذَلِكَ اُلْمُرَكَّبِ، بَلْ هِيَ مَعْنًى اِعْتِبَارِيٌّ يَخْلَعُهُ الذِّهْنُ عَلَى الأَجْزَاءِ اُلْمُرَكَّبَةِ اُلْمَوْصُولَةِ فِي كُلٍّ مَحْسُوسٍ، فَيَجْعَلُ مِنْ ذَلِكَ اُلْمُرَكَّبِ مَوْجُودًا يُسَمَّى كُرْسِيًّا. وُاُلدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَرَ مِنْ قَبْلُ كُرْسِيًّا قَطُّ، فَلَهُ أَنْ يُؤَوِّلَهُ بِحَسَبِ غَرَضِهِ عَلَى أَنَّهُ آلَةٌ ذَاتُ مَعْنًى آخَرَ، كَأَنْ يَكُونَ مَثَلاً بِمَنْزِلَةِ السُلَّمِ الّذِي يُسَاعِدُ فِي اُلْوُصُولِ إِلَى الأَشْيَاءِ اُلْمُرْتَفِعَةِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ إِلاَّ الذِّهْنُ مَنْ لَهُ هَذِهِ اُلْقُدْرَةِ الإِنْشَائِيَّةِ.
وَإِذْ وَطَّأْنَا، فَلَيْسَ مِنْ شَكٍّ أَنَّ اُلْمَدِينَةَ الَّتِي هِيَ مُرَكَّبٌ من نُفُوسٍ سَكَنَتْ أَرْضًا مَا، لاَ تَعُودُ حَقِيقَتُهَا إِلَى تِلْكَ اُلأَجْزَاءِ اُلْمَجْمُوعَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. أَيْ أَنَّ مَعْنَى اُلْمَدِينَةِ إِنَّمَا هُوَ صُورَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ الأَجْزَاءِ اُلْمَذْكُورَةِ، وَهَذِهِ اُلصُّورَةُ لاَ يُمْكِنُ عَدُّهَا بِالطَّبِيعِيَّةِ. إِذَنْ، فَهْيَ صُورَةٌ اِعْتِبَارِيَّةٌ، مُنْشَأَةٌ إِنْشَاءً تَأْوِلِيًّا. وَإِذْ صَحَّ ذَلِكَ، فَاُلاِعْتِبَارُ لاَ يَقُومُ بِذَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَصْلٍ إِلاَّ الذِّهْنُ. وَلَكِنْ أَيُّ ذِهْنٍ ؟ إِنَّهُ الذِّهْنُ الَّذِي يَكُونُ مُتَعلَّقُهُ هَاهُنَا أَنْ يَشُقَّ الأَفْرَادَ، وَلاَ يُقِيمَ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهَا، لأَنَّهُ إِنْ أَقَامَ عِنْدَ فَرْدٍ، أَوْ بَعْضِ الأَفْرَادِ، صَارَ نُقْطَةً، أَوْ قِطْعَةً مِنْ دَائِرَةٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ مُتَعَلَّقُهُ أَنْ يَشُقَّ كُلَّ الأَفْرَادِ، كَمَّلَ الدَّائِرَةَ، وَخَرَجَتْ اُلصُّورَةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى اُلْمَدِينَةِ اُلْمُنْشَأَةِ.
وَلاَ رَيْبَ فِي أَنَّ الذِّهْنَ الَّذِي هُوَ يَنْبُوعُ اُلتَّأْوِيلِ وَأَصْلُ نَشْأَةِ اُلْمَدِينَةِ إِنَّمَا هُوَ اُلْحَاكِمُ. وَلَكِنَّ اُلشُّعَاعَ اُلتَّأْوِيلِيَّ إِنْ خَرَجَ مِنْ اُلْمُؤَوِّلِ وَقَصَدَ اُلأَفْرَادَ، فَإِنَّ هَؤُلاَءَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَلِبُوا فِي اُلنَّشْأَةِ مَدِينَةً إِلاَّ مَتَى قَبِلُوا اُلشُّعَاعَ وَلَمْ يُشَوِّشُوا عَلَيْهِ، أَيْ إِلاَّ إِذَا تَخَلَّوْا آنَئِذٍ عَنْ صِفْتِهِمْ بِأَنَّهُمُ ذَوَاتٌ، أَيْ ذَوِي أَذْهَانٍ، وَرَضُوا بِأَنْ يَصِيرُوا مَادَّةً نَافِعَةً فِي فِعْلِ اُلتَّأْوِيلِ وَاُلتَّصْوِيرِ. أَمَّا لَوْ أَصَرُّوا عَلَى ذَوَاتِهِمْ بِمُقَابِلِ اُلْوَارِدِ عَلَيْهِمْ مِنْ شُعَاعِ اُلتَّأْوِيلِ اُلْخَارِجِ مِنَ اُلْحَاكِمِ، فَإِنَّهُمْ سَيُثْبِتُونَ مَا لَهُمْ مِنْ ذِهْنٍ، وَإِنْ أَثْبَتُوهُ، أَثْبَتُوا يَنَابِيعَ تَأْوِيلِيَّةً كَثِيرَةً مُقَابِلَةً لِلشُّعَاعِ اُلأَصْلِيِّ، فَرَدَّتْ اُلشُّعَاعَ اُلأَصْلِيَّ.
وَرَدَّ كُلُّ شُعَاعٍ شُعَاعًا غَيْرَهُ، فَلَمْ يُوجَدْ خَيْطٌ مَعْنَوِيٌّ يَكُونُ جَامِعًا لِهَذِهِ اُلْكَثْرَةِ، فَلاَ تَنْشَأُ صُورَةٌ، فَلاَ تَنْشَأُ مَدِينَةٌ. إِذَنْ، فَإِنَّهُ لِمَكَانِ شُعُورِ كُلِّ مَحْكُومٍ بِأَنَّهُ بِإِزَاءِ اُلْحَاكِمِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَّخِذَ وَضْعَ اُلْمَوْضُوعِ بِإِزَاءِ اُلذَّاتِ الَّتِي لَهَا سُلْطَةُ الإِنْشَاءِ وَاُلتَّكْوِينِ، أَوْ لِنَقُلْ إِنَّهُ بِسَبَبِ مَا قَدْ نُسَمِّيهِ بِضَرُورَةِ اُلسُّقُوطِ اُلْوُجُودِيِّ لِلْمَحْكُومِ بِمُقَابِلِ اُلْحَاكِمِ، لِنَشْأَةِ اُلْمَدِينَةِ، قُلْنَا : إِنَّ اُلشِّقَاقَ بَيْنَ اُلْحَاكِمِ وَاُلْمَحْكُومِ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مَحْتُومٌ َتَكْوِينِيٌّ خَلْقِيٌّ.
أ) مِثَالٌ عَنِ اُلْمَعْنَى اُلْمُتَقَرَّرِ : اُلْقَذَّافِيّ وَخِطَابُ “زَنْڤَه زَنْڤَه”
وَهَذَا اُلْمَعْنَى الَّذِي بَيَنَّاهُ لاَ يَخْتَصُّ بِنَمَطٍ فِي اُلْحُكْمِ، كَاُلْمُتَجَبِّرِ، وَيَتَنَزَّهُ مِنْهُ نَمَطٌ آخَر كَالَّذِي يُسَمَّى بِإِمَارَةِ اُلْجُمْهُورِ. بَلْ هُوَ سَارٍ فِيهَا كُلِّهَا، مَعَ فَرْقٍ أَنَّهُ فِي إِمَارَةِ اُلْجُمْهُورِ يُوجَدُ خَفِيًّا، أَمَّا فِي اُلْمُتَجَبِّرِ فَيَكُونُ جَلِيًّا. لِذَلِكَ فَنَحْنُ لِتَأْكِيدِ اُلْمَعْنَى اُلْمُقَرَّرِ، إِنَّمَا نَأْخُذُ مِثَالاً لِجَبَّارٍ فِي إِحْدَى صُوَرِ اُلسَّلْطَنَةِ، لِنَرَ جَمِيعًا بِكُلِّ يُسْرٍ حَقِيقَةَ مَا أَثْبَتْنَاهُ.
1) صَرْخَةُ “مِينْ اِنْتُمْ”
“مِينْ اِنْتُمْ” كَلاَمٌ فِي صِيغَةِ اِسْتِفْهَامٍ. وَاُلْقَذَّافِيُّ حِينَ صَرَخَ بِهِ فِي سَوْرَةِ غَضَبِهِ، وَأَتُونِ خِطَابِهِ، فَاُلْمَفْهُومُ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَفَهِمَهُ كُلُّ اُلنَّاسِ إِجْمَالاً، أَنَّهُ اِسْتِفْهَامٌ تَحْقِيرِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ لِمَحْكُومِيهِ. لَكِنَّ اُلْحَقِيقَةَ أَنَّ هَذِهِ اُلصَّرْخَةَ إِنَّمَا هِيَ صَرْخَةُ فَزَعٍ، وَجَزَعٍ، وَحَيْرَةٍ. وَلَيْسَ فَزَعًا مِنَ الَّذِينَ عَصَوْهُ أَنْ يُؤْذُوهُ، أَوْ جَزَعًا مِنْ أَنْ يُخْلَعَ أَوْ يُقْتَلَ، أَوْ حَيْرَةً فَنِيَّةً، كَاحْتِيَارِ صَاحِبِ آلَةٍ تَعَطَّلَتْ آلَتُهُ. بَلْ إِنَّهَا صَرْخَةُ فَزَعٍ وُجُودِيٍّ، وَصَرْخَةُ جَزَعٍ وُجُودِيٍّ، وَ حَيْرَةٌ وُجُودِيَّةٌ عَظِيمَةٌ أَقْسَى عَلَى اُلنَّفْسِ مِنَ الفَنَاءِ نَفْسِهِ. وَاسْتِفْهَامُهُ اِسْتِفْهَامٌ حَقِيقِيٌّ، وَاُلْمُخَاطَبُ بِهَا “نَفْسُهُ هُوَ”، لاَ غَيْرُهُ. لأَنَّ حَقِيقَةَ صَرْخَتِهِ بِ“مِينْ اِنْتُمْ” إِنَّمَا هِي صَرْخَتُهُ لِنَفْسِهِ بِ“مِينْ أَنَا” : تَفْسِيرُهُ أَنَّ اُلْحُكْمَ اُلْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الإِنْشَاءَ اُلْمُطْلَقَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اُلْمَحْكُومِينَ الَّذِينَ هُمْ مُتَعَلَّقُ الإِنْشَاءِ، مُنْفَعِلُونَ عَلَى الإِطْلاَقِ، مُطَاوِعُونَ عَلَى اُلإِطْلاَقِ. ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مِنْهُمْ بِإِزَاءِ فِعْلِ الإِنْشَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ ضَئِيلاً، هُوَ حَدٌّ لَهُ، إِذَنْ فَهْوَ حَدٌّ لِلْمُنْشِئِ اُلْمُطْلَقِ.
وَقَدْ قُلْنَا إِنَّ إِنْشَاءَهُ مُطْلَقٌ. وَمَنْ لَهُ صِفَةُ مُطْلَقِ الإِنْشَاءِ، فَلَهُ صِفَةُ اُلْوُجُوبِ. وَاُلْوُجُوبُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَلِبَ مُمْكِنًا، أَيْ مُنْشَأً، وَفِعْلُهُ الإِنْشَائِيُّ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَبْطُلَ آنًا مِنَ الزَّمَنِ. وَعَلَى هَذَا فَاُلقَذَّافِيُّ لَمَّا كَانَتْ مَعْنَى اُلْحَاكِمِيَّةِ الَّتِي حَرَّرْنَا آنِفًا، قَدْ غَمَرَتْهُ بِحَذَافِيرِهِ، وَغَابَ هُوَ فِيهَا بِكُلِّهِ، فَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ تَقَرُّرًا وُجُودِيًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ شَاعِرًا، بِأَنَّ حَقِيقَةَ حَقِيقَتِهِ وَجَوْهَرَ جَوْهَرِهِ أَنَّهُ أَصْلٌ إِنْشَائِيٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَنْ يُنْعِمُ عَلَى مَحْكُومِيهِ بِاُلْوِحْدَةِ، وَيَكْسُوهُمُ اُلْمَعْنَى. لِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ أَنْ أَظْهَرُوا لَهُ عِصْيَانَهُمْ، فَتَفْسِيرُهُ بِاُلْبَيَانِ الوُجُودِيِّ، أَنَّ مَا كَانَ مَحَلَّ الإِنْشَاءِ، قَدْ صَارَ عَصِيًّا عَلَى فِعْلِ اُلْقَذَّافِيِّ الإِنْشَائِيِّ.
واُلْمُنْشَأُ إِنْ حَدَّ فِعْلَ اُلْمُنْشِئِ، أَبَانَ لاَ مَحَالةَ أَنَّ اُلْمُنْشِئَ لَيْسَ ذَا إِنْشَاءٍ مُرْسَلٍ. وَهُنَالِكَ اِحْتَارَ اُلْقَذَّافِيُّ حَيْرَةً عَظِيمَةً مُهْلِكَةً مَاحِقَةً : “إِنَّمَا أَنَا اُلْمُنْشِئُ الُمُطْلَقُ؛ إِذَنْ فَلَيْسَ لِمَا أُنْشِئُهُ، لَدَيَّ، ثُبُوتٌ لِذَاتِهِ أَصْلاً. لأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ لَحَدَّتْنِي. وَهَذَا مُحَالٌ مَا تَحَقَّقَ أَنِّي أَنَا اُلْمُنْشِئُ اُلْمُطْلَقُ. وَلَكِنْ، فَيَاوَيْلَتِي، مَا بَالُ الآنَ، اُلْمُنْشَإِ هَا هُوَ ذَا يَعْصِينِي، وَيَمْتَنِعُ عَنِّي. فَلَوْ كُنْتُ أَنَا اُلْمُنْشِئَ حَقًّا، فَمَنْ ذَا اُلْمُنْشَأُ الَّذِي جَازَ لَهُ الآن أَنْ يَسْتَقِلَّ عَنْ سُلْطَانِ إِنْشَائِي. وَإِنْ كَانَ هَذَا اُلْمُنْشَأُ إِنَّمَا هُوَ مُنْشَئِي أَنَا، وَهُوَ كَذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَقَدْ حَدَّنِي، وَإِذْ حَدَّنِي فَلَسْتُ أَنَا مُنْشِئًا مُطْلَقًا: إِذَنْ فَمِينْ أَنَا ؟ ” .
2) نِدَاؤُهُ مَنْ عَصَوْهُ بِ”يَا جِرْذَانْ”
كَذَلِكَ نِدَاؤُهُ مَنْ عَصَوْهُ بِعِبَارَةِ “يَاجِرْذَانِ”. إِذْ أَنَّ اُلْمَحْكُومِينَ هُمْ مُنْشَأُونَ لأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِمْ فِعْلُ الإِنْشَاءِ اُلصَّادِرُ مِنَ مُطْلَقِ اُلْمُنْشِئِ. وَهُمْ بِعْصْيَانِهِمْ لَكَأَنَّهُمْ رَامُوا الانْسِلاَخَ مِنَ ذَاكَ اُلْفِعْلِ، وَالإزْوِرَارَ عَنْهُ. فَحَصَلَ فِي ذِهْنِ اُلقَذَّافِيِّ، أَنَّهُمْ إِذَا ازْوَرُّوا عَنْهُ، فَلَنْ يُمَتَّعُوا بِمَدَدِ الإِنْشَاءِ، وَ هُمْ بِانْقِطَاعِهِمْ عَنِ اُلْمِيرَةِ الإِنْشَائِيَّةِ، فَلاَ مَنَاصَ لَهُمْ حَتْمًا مِنَ الارْتِكَاسِ فِي اُلْعَدَمِ، وَدُخُولِهِمْ تَحْتَ حُكْمِ اُلْفَنَاءِ. وَذَلِكَ مَا كَانَ تَوْبِيخُهُ ب”يَا جِرْذَانْ”. وَ حَقِيقَةُ اُلْعِبَارَةِ أَنَّهَا “كِنَايَةٌ”. بَلْ إِنَّهَا لَكِنَايَةٌ ذَاتُ مَرْتَبَتَيْنِ : إِذْ كَانَ مُرَادُهُ آخِرًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى اُلْعَدَمِ. فَكَنَّى عَنْهُ آخِرًا بِاُلْحَقَارَةِ. وَكَنَّى عَنِ اُلْحَقَارَةِ بِاُلْجِرْذَانِ. عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا بَدَا لَهُ مِنْهُمُ اُلْعِصْيَانُ، نَبَّهَهُمْ عَلَى مَآلِهِمِ اُلْوُجُودِيِّ، أَعْنِي اُلْعَدَمَ، فَقَالَ مَكَانَ قَوْلِهِ ” يَا أَهْلَ اُلْعَدَمِ”، “يَا جِرْذَانْ!”.