قصة هارون الرشيد
سيرة هارون الرشيد، حَفِلَ تاريخ الأمَة العربيِة على مرِ العصور وتوالي الحضارات بشخصيات وأُناس استطاعوا بما امتلكوه من حكمةٍ وقوَة وما أنجزوه من مهمَات وأعمال أن يضعوا بصمةً مميزةً في تاريخهم وكذلك في تاريخ أمتنا أجمع، تلك البصمة التي لم ولن تُنسى ما حيينا، وستبقى خالدة في أذهاننا وحاضرة في أعماقنا على مرِ الزمان، ولهذا فمن حق أولئك الذين بنوا حضارتنا ووضعوا ركائزها وأسسها أن نتذكرهم دوماً ونستذكر ما صنعوه من أعمال كانت سبباً في افتخارنا بهم وتعظيمنا لهم.
من هو هارون الرشيد؟
إن شخصيةً عظيمةً كشخصية هارون الرشيد الخليفة العباسي العظيم لا يمكننا أن نمر على ذكرِها مرور الكرام وإنما ينبغي علينا أن نتعرف عليها أكثر ونتوقف عند أبرز محطاتها وأهم أحداثها.
نسب الخليفة هارون الرشيد
هو هارون بن محمد المهدي بن عبدالله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن عبَاس الهاشمي المُكنَى بأبي موسى وأبي جعفر لاحقاً، ولدته أمه عام ١٤٨للهجرة في مدينة طبرستان في بلدة تدعى “الري”، ترعرعَ في ظلِ أبيه المهدي الذي أولاه اهتماماً كبيراً وخصوصاً من الناحية التربوية والتعليميَة مما جعله يلمُ بالكثير من المعارف والعلوم.
وهذا شاهدنا تأثيره على الخليفة بشكل ملموس إذ أنه وخلال توليه لفترة الحكم العباسي بذل جهوداً حثيثةً وحاول كثيراً في سبيل التعليم وإتاحة العلوم لمختلف الأفراد وبالتالي أبلى بلاءً حسناً في نشر الثقافة والعلم في الأمَة العربيَة، أما عن زواجه فقد تزوَج عام ١٦٥ للهجرة من زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور فكان له منها ولدين أسماهما الأمين والمأمون.
هارون الرشيد وتنصيبه حكم العباسيين:
خلف العباسيُون حكم الدول الإسلامية بعد وقوع الدولة الأموية التي سقطت لأسباب متعددة لسنا بصدد ذكرها الآن، فكان العباسيون يخططون ويدبِرون الأمر لخلافة الأمويين ونجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً وباهراً من خلال ما قاموا به بالخفاء والسرِ من دعوة إلى الخلافة،فكسبوا ود مناصريهم حتى تمكنوا نتيجة ذلك من السيطرة على الحكم وحيازته.
بعد أن مات مؤسس الدولة العباسية محمد بن عباس أمر بأن يخلفه أبناؤه الثلاثة في الحكم وهم أبو العباس وأبو جعفر وإبراهيم الإمام، وبالفعل تولًى أبو العباس الخلافة أولاً خلفاً عن أبيهِ فوطدَ أركان الدولة وحاربَ أعداءها بقسوة وعقبَ مماته خلفه أبو جعفر فمشى على الخطى ذاتها محارباً أعداء الدولة العباسيَة ومتمماً بناء ركائزها.
وعقب أبي جعفر المنصور كانت الخلافة من نصيب المهدي الذي أمر بالخلافة من بعده لولديه الهادي والرشيد على الترتيب، فلم تطُل فترة حكم الهادي الذي سُرعانَ ما وافته المنية ليتولى الحكم بعده هارون الرشيد الذي صنع مجداً عظيماً لم يصنعه أحدٌ من الخلفاء العباسيين طوال فترة الحكم العباسي.
هارون الرشيد وتوليه الحكم العباسي
استلمَ هارون الرشيد حكم الدولة العباسية عام ١٧٠ للهجرة حيث كان يبلغ من العمرخمساً وعشرين ربيعاً، أنجز العديد من المهام وخاض الكثير من المعارك والحروب محققاً انتصاراتٍ مبهرة فكانت مسيرة حياته منذ استلامه الحكم العباسي حافلة بالإنجازات والانتصارات ومليئة بالأعمال المهمة التي تستحق الذكر حقيقةً، وفيما يلي نورد أهم وأبرز ما قدمه الخليفة العباسي هارون الرشيد للدولة العباسية خلال فترة حكمه:
– سعى الرشيد أثناء توليه الحكم إلى تطوير الدولة العباسية بشتى الطرق ومن مختلف الجوانب فاعتنى بالجانب التعليمي أشد عنايةً حتى حوَل مدينة بغداد أو “دار السلام” كما أسماها إلى حاضنة للعلوم والمعارف ومقصد لطالبي العلم ومحبي المعرفة وذلك من خلال شيوع المساجد كدور علم يقصده الطلبة من الأنحاء المختلفة حيث يتلقون فيها العلم ويلتقون مع الشيوخ والأئمة الذين كانوا بمثابة المدرسين والأساتذة ينشرون التعليم والمعرفة، فارتقت العلوم في عهدهِ ولاقت ازدهاراً كبيراً وتطوراً ملموساً جراء المحاولات المبذولة من قبله.
– أسس هارون الرشيد “بيت الحكمة” كما أطلق عليه وهو عبارة عن مكتبة كبيرة تعجُ بالكتب المتنوعة، وما كان تأسيس تلك المكتبة من قبل الرشيد إلا دليلاً واضحاً ومؤشراً هاماً حول الارتقاء الثقافي والازدهار المعرفي الحاصل في عهده.
– شجع هارون الرشيد الرجال على الزراعة والبناء كثيراً، فبُنيت البيوت الفاخرة والقصور الضخمة، زُرعت أشجار وحُفرت أنهار وآبار مياه، وجرى توسيع الطرق والشوارع مما أدى إلى نمو الدولة بشكل متسارع وازدهارها، وهذا لعب دوراًمهماً أيضاً في ازدياد أعداد سكانها بشكل ملحوظ.
– حوَل هارون الرشيد مدينة بغداد إلى مركز تجاري مميز من خلال تنشيط حركة التجارة فيها وجعلها على استعداد دائم لاستقبال السلع من البلدان المختلفة واحتوائها لتصبح بذلك بغداد مركز التجارة في الشرق آنذاك.
– أما فيما يتعلق بحروبه ومعاركه فقد دخل الرشيد في خلافات كبيرة مع مُعادي الدولة العباسية وخاض جملة من المعارك والحروب، أخفق في بعضها وأحرز انتصاراً جميلاً في معظمها، تتلخص جلَ الحروب التي خاضها في ثورة الخوارج الذين أقبلوا عليه بقيادة الوليد بن طريف الشاري وكذلك أهل خراسان الذين ثاروا على واليهم.
بالإضافة إلى النزاعات الدائرة بين قبائل بلاد الشام وبالأخص قبيلة القيسية واليمنية حيث اندلعت بينهما الكثير من المشاكل والتي شكلت بدورها عائقاً في وجه الدولة العباسية مهدداً لاستقرارها ومؤثراً على استقرار بلاد الشام برمّتها فكان من الأفضل للجميع إخماد الخلافات الناشبة والمحافظة على الأمن والسلام في المنطقة وهذا ما فعله الرشيد.
ولم تكن المعارك التي خاضها هارون الرشيد محصورة مع العرب فحسب، وإنما شكلَ الروم عدواً خارجياً وقوة جبارة من الصعب مواجهتها دون التخطيط والاستعداد الصحيح، ما دفعه إلى تعزيز وتقوية الأسطول الحربي الخاص بالمسلمين.
فعمد إلى بناء السفن وترميم نقاط الضعف وسد الثغرات والفجوات التي يمكن للروم استغلالها ومحاربة العباسيين من خلالها وجراء ما لاقاه الروم من قوة ونفوذ لدى الدولة العباسية متمثلة بأميرها “هارون الرشيد” اضطروا إلى مهادنة الخليفة الرشيد وعقد العديد من المصالحات معه.
وفاة هارون الرشيد:
شاء القدر أن لاتدوم خلافة هارون الرشيد كثيراً، والسبب في ذلك حالته الصحية التي اعتلت واضطربت وازدادت سوءاً تباعاً مع مرور الوقت، ومن المؤسف أن المرض الذي أصابه لم يكن هناك ما يشفيه ويعافيه تماماً، وعلى الرغم من سوء صحته وضعفها إلا أن ذلك لم يمنعه من القيام بواجبه تجاه دولته في سبيل الحفاظ عليها، إذ اتجه إلى خراسان وهو في حالة صحية سيئة من أجل معالجة المشاكل والنزاعات المشتعلة هناك، لكن لم يتمكن رحمه الله من إتمام ما بدأ فيه فلفظ الأنفاس الأخيرة وهو في الطريق إليها (مدينة مشهد المسماة طوس سابقاً) عام ١٩٣ للهجرة، وكان عمره قد بلغ حينها ٤٣ سنة.
وأمام ما اطلعنا عليه ولمسناه من دور للخليفة العباسي هارون الرشيد يمكننا القول أن وفاته كانت خسارة كبيرة بالنسبة للدولة العباسية والإسلامية أيضاً، ولا سبيل لنا في الحفاظ على ما قدمه للإسلام والمسلمين إلا عن طريق اكتساب المعرفة والعلوم وتطويرها ومن ثم تعليمها للغير حتى الحفاظ على ذات النهج الذي اتبعه الرشيد وإعادة الدول الإسلامية إلى ألقِها وإشراقتها وازدهارها كما كانت عليه سابقا.