كعب بن زهير
الشعر العربي هو حالة إنسانيّة ووجدانيّة مميزة، خُلق منذ غابر الأزمان وتكوّن نقطةً تلوى الأخرى، حتّى تشكّلت الحروف والكلمات ومن ثمَّ الجمل، لتتطوّر لاحقًا وتصل إلى مجرةٍ أدبيّة انقسمت ما بين الشعر والنثر. ولأنَّ الشعر هو حالة إنسانيّة، فهو ينمو ويكبر وينضج، ويمضي في هذه الحياة ليعبر محطة ويدخل بأخرى عبر سلسلةٍ من العصور التاريخيّة. سنتحدّث اليوم عن شاعرٍ مخضرم، عاش تجاربه الحياتيّة والشعريّة منشطرًا ما بين العصر الجاهلي والعصر الإسلامي.
قصة كعب بن زهير مع الرسول ﷺ
لعلَّ أهم ما حدث في حياته هي نقطة التحوّل الجذري بعد ظهور الإسلام، فقد أشاح كعب بوجهه عن الإسلام، واستخدم شعره أداةً للإساءة إلى الرسول الكريم محمد صلّى الله عليه وسلم، ولكثرة تماديه، أهدر النبيَّ دمه، ليأتي كعب لاحقًا مستغفرًا، تائبًا، معتذرًا. همه الأكبر حياته. ورضى النبي العظيم. وبعدما سمع سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم أبيات كعب المؤثرة، وقعتْ تلك الكلمات في نفسه موقعًا لطيفًا، وحين انتهى كعب من إنشادها، خلع الرسول بُردته.
وألقاها عليه. مُعطيًا إياه الأمان المرجو. حملت هذه القصيدة مكانة خاصة في أرواح المسلمين، فقد سار كعب على نهج تقليد الجاهليين، محافظًا على حداثة واحترام مصطلحات وأسلوب الشعر الإسلامي، حيث أنه تلّقى أسرار صناعة الشعر عن أبيه، فقد امتلك خبرة واسعة وعميقة في بناء قصيدة مدح استثنائيّة، بدأ مطلعها مستندًا للنمط القديم قائلًا:
قصيدة البردة (كعب بن زهير)
“بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُجزَ مَكبولُ وَ ما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَ لا طولُ تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا اِبتَسَمَت كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ تَجلو الرِياحُ القَذى عَنُه وَأَفرَطَهُ مِن صَوبِ سارِيَةٍ بيضٍ يَعاليلُ يا وَيحَها خُلَّةً لَو أَنَّها صَدَقَت ما وَعَدَت أَو لَو أَنَّ النُصحَ مَقبولُ -لَكِنَّها خُلَّةٌ قَد سيطَ مِن دَمِها فَجعٌ وَ وَلعٌ وَ إِخلافٌ وَتَبديلُ -فَما تَدومُ عَلى حالٍ تَكونُ بِها كَما تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ وَ ما تَمَسَّكُ بِالوَصلِ الَّذي زَعَمَت إِلّا كَما تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ كَانَت مَواعيدُ عُرقوبٍ لَها مَثَلًا وَ ما مَواعيدُها إِلّا الأَباطيلُ أَرجو وَآمُلُ أَن يَعجَلنَ في أَبَدٍ وَ ما لَهُنَّ طِوالَ الدَهرِ تَعجيلُ فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت إِنَّ الأَمانِيَ وَ الأَحلامَ تَضليلُ”
شرح قصيدة كعب بن زهير بانت سعاد
من خلال هذه المقدمة الغزليّة يمكننا أن نفتح بابًا للنقاش حول الدراسة الفنيّة والنفسيّة لهذا النص. انطلق كعب مرتجلًا بكلمة مفتاحيّة “بانت”، والتي تعتبر من كلمات الأضداد في اللغة العربيّة السامية، أي أنَّ لها معنيان متضادّان، بحيث تحمل المعنى الأوّل (ظهرت)، والمعنى الثاني (اختفت). وبهذا يكون الشاعر قد جعلنا ندخل في دوامة التناقضات منذ بداية قصيدته، جعلنا نتخبّط ما بين الخفاء والتجلي، ما بين الغموض والوضوح.
فكرة البينونة هي فكرةٌ مستمدّة من التراث الجاهلي العريق، حيث أنها وردتْ في شعر الأعشى والنابغة الذبياني، تحمل بين طياتها الكثير من التساؤلات، ولعلَّ إشارات الاستفهام لن تتوقف عند هذا الحد.تابع كعب مطلعه الغزلي مستشهدًا بإحدى فتيات شعر العرب “سعاد”، مؤسسًا مقدمته كلها على ذكرها وذكر كل التفاصيل المتعلقة بها والتي عاشها معها.
اعتمد الشاعر على الصور التراثيّة التي وردتْ في الشعر الجاهلي، وذلك عندما قال (فقلبي اليوم متبولٌ، متيّمٌ إثرها.) وفي هذا المثال أيضًا هنالك جانب جاهلي آخرو هو أسلوب توالي الصفات وتراكمها. وقد انتقل ضمن هذه الأبيات إلى ظاهرة القصر البيانية، وتعني أنْ يقتصر الموصوف الذي هو “سعاد” على صفةٍ بعينها، وهي (الظبي الأغن)، وذلك لتوكيد المعنى وإيصال مدى عمق الإحساس في نفس الشاعر.
كما أنه لن ينسَ إطلاقًا ذكر الخمر رغم وقوفه أمام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن الإشارة هنا إلى أنَّ النبي قد راع وضعه واحتوى تشتته ما بين العصرين، فقد أراد كعب أن يشبّه (ريقها بالخمرة الممزوجة بالماء)، وهو ما يسمى ظاهرة الاستطراد في معرض الصورة.
إنَّ نزعة التفصيل ها هنا تكشف عن إحساسه العميق بفقد هذه الحبيبة، وعن محاولة استحضارها عبر هذه الصورة. ثمَّ عبّر الشاعر عن حلمه وأمنياته بأن تكون سعاد صادقة ووفيّة، ولكنه أثار مشاعرنا تعاطفًا عندما ذكر بحرقةٍ موجعة عن مدى خيبته بها.
معتمدًا على ذكر التفاصيل في قوله: (لكنها خلة، فما تدوم، وما تمسك، كانت مواعيد) هذه الصور كلها انعكاس واضح وصريح عن روحه المتعبة، ومنظار كاشف لنفسيته المدّمرة. واسترسل بمتابعة خيبة أمله عندما قال (كانت مواعيد عرقوب)، وهنا نرى تأكيده على حالة الغضب والسخط والحزن التي تربّع دون منازع في فؤاده الحالم. ما رأيك عزيزي القارئ أنَّ كعب قد قام بخداعنا واللعب في عقولنا، دعنا نحلل معًا ما وراء السطور الخفيّة.
توصف الحياة عامةً في تراثنا بأنها فاتنةٌ لعوب وبأنها فتنة الزمان، ويوصف الدهر بأنه خائنٌ متقلّب الأحوال، وتوصف الليالي بأنها غدّارة. إنَّ سعاد هي رمزٌ للحياة التي انقلبت رأسًا على عقب وهزّت كيان كعب، فبعد أن كان يحيا حياةً جاهليّة، طيرًا حرًّا يفعل ما يشاء، أجبرته أن يلجأ إلى الإسلام للمحافظة عليها، فحين يتذكّرها فإنه يتذكّر مذاقها الجاهلي عبر صورة الخمرة الجاهليّة ويتذكر فتنتها. هذه الحياة التي كان يبكي عليها كعب، وعلى فراقها والتي باتت بعيدة المنال عنه.
لذلك أظهرت فكرة البينونة (بانت) منذ البداية هذا المعنى الخفي، فهو في الظاهر يتحدّث عن امرأة يمنحها وجودًا حيًّا ولكنه في الحقيقة يرمز بها إلى الحياة الماضية، وهذا البكاء الذي نراه هو بكاء على الحياة الجاهليّة التي هوت من بين أنامل عمره، وهذه الأماني المقهورة هي أمانيه التي هذبها ظهور الإسلام، وهذا ما يُطلق عليه الغزل الرمزي. وبهذا نكون قد انتهينا من رحلة المقدمة الغزلية لقصيدة كعب بن زهير، سنوافيكم في مقالٍ آخر الحياة الجديدة التي عاشها كعب في لحظات أبياته.