دمشق عاصمة الياسمين
دِمشق الياسمين، أقدمُ عاصمةٍ مأهولة في التَّاريخ، إذا مررتَ بين حاراتها يا ابن الكرام ستلفحُك رائِحة المِسكِ؛ وشجرُ العنبر والياسمين، سوفَ ترى في طرُقاتِها القديمة أوراق زهر الياسمين منثورةً في كُلِّ حارة، وعلى باب كُلِّ دُكَّانٍ قديم، وعلى بابِ كُلِّ مطعمٍ دمشقيٍّ عتيق، سترى نوافير المياه العذبة الرَّقراقة التي تُسمَّى بالسَّبيل، في كُلِّ حارة تجد سبيل مياهٍ لتروي عطشك، تترحَّم وتقرأ الفاتحة على شيخٍ تقيٍّ أو تقيَّة فارقت الحياة، والأهل وضعوا سبيل ماءٍ للدُّعاء والرَّحمة، هذه هي عاداتُ الدِّمشقيين، تُشبِعُ العينَ وترتوِ الرُّوحُ من عبقِ حِكاياتِ حاراتها.
دمشقُ تِلك القلعةُ الصَّامدةَ بوجه التَّاريخ، كم من حضاراتٍ عَبرتْ عليها، كم من غازٍ جاءها فاتحاً؛ وانكسرَ على عتبات أبوابها السّبع، أبوابها الحارسةُ المانعةُ، الموصدة في وجهِ كل مُستعمرٍ وغازي، نعم هذه دمشقُ العاتيةُ على العاتي، والمُستعليةُ على المُستعلي، لكنَّها القلبُ النَّابضُ للعروبةِ، دمشقُ المِضيافة الحَنونة، تَراها فاتحةً أبوابَها السَّبعَ على مصراعيها لكلّ من جاءها ضيفاً، فكانت له بيتاً وحُضناً، ووطناً ثانٍ لكُلِّ دخيلٍ مُستجير.
دِمشقَ التي قال عنها الباحث الأمريكي (وليم ديورانت)، حين زارها وألهمته لكتابة اشهر مؤلَّفاتهِ، وهي: قِصَّة الحضارة، إنَّها أصل الحضارة، وبؤرة ابتداء العِلم، حيث قال عنها: دُرَّة الشَّرق دمشق هذه لؤلؤة الشَّرق، فيها خُطَّت أوَّل رقيمة تدعو للسَّلام، ونبذ الحرب، كتب عليها:
“مِنَ الإله بعل، حطِّم سيفكَ، وتناول مِعولك، واتبعني لنزرعَ السَّلامَ والمحبَّةَ في كبدِ الأرض؛ أنتَ سُوريٌ، وسوريا مركزُ الأرض“.
دمشقُ الآراميَّة العريقة مسكن يوحنَّا المعمدان؛ النبيَّ الموحِّد الذي عمَّد المسيح عليه السَّلام بماءِ النُّور، دِمشق الكنعانيَّة المُتخمة بالقصور الملكيَّة، والأوابد الأثريَّة، والجوامع المُزخرفة، دمشق مسرى نوح نحو الخلاص من الطُّوفان العظيم، فمن خشب غوطتها بنى سفينته، ومضى للخلاص الأخير، دمشق بيت آدم عليه السلام، في ذرا هضبات دمشق ترى رأس نبيِّنا هابيل الذي قتله أخوه قابيل، فكانت أوَّل جريمة في التَّاريخ، وأوَّل مظلوميَّة، ترى الرأس مزروعاً للشمس بمقامه الشَّريف، فيُقال في الأساطير القديمة: إنَّ الدم سال من هابيل، وشقَّ الأرض ورواها، فقالوا: الدَّمُ شُقَّ يا دمشقُ.
دمشق الشَّام شامةُ الدُّنيا، ودُرَّة الزَّمان؛ هكذا ناجاها (رسولنا العربي محمد ص) فقال: “الله بارك لنا بشامنا..“.
لقد كانت دمشق في كثيرٍ من الأحيان المادة الخام للأحلام، وأيضاً كانت بشكلٍ مُتكرِّر الكوابيس، بالنِّسبة للعديد من دول المنطقة والعالم، كانت هذه المدينة تحديداً، كمثالِ للعظمة والإغراء، هي التي أظهرها الشيطان ليسوع خلال أيَّام صِراعِهِ في الصَّحراء، ووفقاً لأسطورة محليَّة مُنتشرة، سيعود المسيح إلى دمشق ليُعلن عن المسيحِ موحِّداً، ويُعلن انتهاء العصر والدَّينونة على وجه التحديد، سيقف المسيح على قِمَّة أعلى مئذنة في الجامع الأمويِّ الكبير، ومن هُناك سيُعلن قدوم مملكة السَّماء.
دمشق التي وصفها باتريك سيل بمدينته الثانية، ووطنه الثاني، حيثُ قال:
“كلُّ إنسانٍ له وطنان: الأوَّل الذي يولدُ فيه، والثَّاني سوريا، وعاصِمتَهُ الأقرَبَ إليه تكون دِمشق“.
من أين أتت التسمية
هي بِكسر الدَّال، وفتح الميم (دِمَشق)، وبِكسر الدَّال والمِيم أيضاً (دِمِشق)، وهو الاسم الشَّائِع في الماضي والحاضر، لقّبها أصحابُها باسمِ لؤلؤةِ الشَّرق؛ لشِدَّة جمالها وتفرّدها بين المُدُن الأخرى، ويُستمدُّ اسم مدينة دمشق من كلمة ديماشكا، وهي من أصل ما قبل الساميَّة، وتعني الأرض المسقيَّة والمرويَّة، وبعض المصادر كياقوت الحموي في معجمه؛ أعطى دمشق تفسيراً لغويَّاً فقال: “قيل: سُميت بذلك الاسم لأنَّهم دَمشقوا في بنائها، أي أسرعوا، وناقة دَمْشَق: أي سريعة”.
وآخرون رأوا أنّ اسمها مُشتق من كلمة دُومَسْكَس، والذي يعني الرَّائِحة الطيِّبة، أو عطر المِسك، والبعض يقول أنَّها سُميت دمشق نِسبةً للقائد اليوناني (دماس يوس)، الذي أنشأ المدينة في العهد الرُّوماني، وذكر (ستيفانوس) البيزنطي، وقد عاش في القرن السَّادس قبل الميلاد، إنَّ اسم دمشق يرجع إلى أنَّ البطل (دمسكوس) ابن الإله (هرمس) جاء من اليونان إلى سورية، وبنى مدينةً باسمه، كما يُطلق عليها اسم الشّام كاسمٍ عام، ومعروفٌ لكُلِّ العالم بمعنى الشمال أو اليسار بالنِّسبة لشِبه الجزيرة العربيَّة، وتتحدّث مصادر أخرى بأنَّ الشَّام هي كنية لسَّام بن نوح علية السَّلام.
ومن أسمائها أيضاً:
“عين الشَّرق كُلّه”، أطلقه عليها (يولي لنّوس) الرُّوماني؛ لِعظمة عمرانها.
أمّا من أسماء دمشق العربيّة:
“دمشق الشَّام”، تمييزاً لها عن غرناطةَ الأندلسيَّة المُسماة “دمشق العرب”، و”ذات العماد”، وقد سُميت بذلك لكثرة أعمدتها، حيث تقول المصادر القديمة أنّ بِها أربعمائة ألف عامود من الحجارة الضّخمة. و”حاضرة الروم”، و”حصن الشام”، و”باب الكعبة”، و”فسطاط المسلمين”، و”العذراء”، ولعلَّ هذه التسمية نسبةً إلى مريم العذراء، و”جُلقَ”، و”شام شريف”، و”الفيحاء” و”شام العدية”، و”قاعدة وادي سورية” المعروفة بسورية المجوَّقة.
الطبيعة الجغرافيَّة لمدينة دمشق
تُعتبر مدينةُ دِمشقَ هضبةً داخليَّة، حيثُ يبلُغ ارتفاع المدينة حوالي 680 متراً عن مستوى سطح البحر، وتُعتبر إحدى مُدُن المنطقة الوسطى القريبة من سِلسِلة جبال لبنان، وتُعد كحدودٍ طبيعيَّة بين البلدين، ويبلغ ارتفاع قمم الجِبال فيها أكثر من عشرة آلاف قدم، فعلى قِممها يتربَّع جبل قاسيون الشَّامخ، وتأتيها المِياه وترويها من نهر بردى وفروعه المتشعِّبة، بردى الرَّقراق العذب الذي تغنَّى فيه أمير الشُّعراء أحمد شوقي، فقال:
سلامٌ من صبا بردى أرقُّ
ودمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمشقُ
وَتَحتَ جِنانِكِ الأَنهارُ تَجري
وَمِلءُ رُباكِ أَوراقٌ وَوُرْقُ.
نعم، دمشقُ التي سُميت بهذا الاسم، لأنَّها أرضٌ خصبةٌ ماؤها رقراقٌ وعذب، فدمشق تعني الأرض المسقيَّة والمرويَّة بغزارة، وتجد هذا بغوطتها الخضراء المعطاء، والتي كانت تحتوي قبل الحرب الظَّالمة عليها قبل عشر سنوات ما يُقارب العشر ملايين شجرة في غوطتيها الشرقيَّة والغربيَّة.
في دمشقَ آبارٌ وعيونُ ماءٍ، وينابيعَ كثيرةَ تسقي المدينةَ، وأهم هذه العيون نبعُ عين الفيجة، حيثُ تتفجَّر مياه نبع الفيجة من سفح جبل القلعة في عين الفيجة، فمن ماء هذا النبع تشرب مدينة دمشق وضواحيها، وهو نبعٌ غزير، إذ تبلغ غزارته في فصل الرَّبيع حوالي 30 متراً مُكعَّب في الثانية، بالإضافة إلى نقاوة المياه؛ فقد أثبتت الفحوص أنَّ مياه الفيجة من أجود المياه على مستوى العالم، والصُّخور الكلسيَّة التي تختزن هذه المياه بعيدة عن مصادر التلوُّث، بالإضافة إلى خلو المياه من الطُفيليَّات والجراثيم.
موقع دمشق الاستراتيجي
اشتهرت دمشق منذ القدم كمدينة تجاريَّة تقصدها القوافل من بلاد فارس، وآسيا، ومصر وشبه الجزيرة العربية، وقد جعلها موقعها الجغرافي نُقطة عبورٍ للقوافل التجاريَّة، وواحدة من المحاور المُهمَّة في شبكة التجارة الدوليَّة،
والسَّبب في ذلك أنَّها تتوسَّط العالمين القديم والحديث، حيث تُعتبر نقطة وصلٍ بين الشَّرق والغرب، فكانت من أهم محطَّات طريق الحرير الذي يربط الصِّين مع آسيا، مروراً بالوطن العربي إلى أوربا.
وتُعتبر دمشقَ مركزاً دينيَّاً وثقافيَّاَ وسياسيَّاً مُهمَّاً للغاية، وقد لعبت دائماً دوراً رئيسيَّاً في الحفاظِ على الثقافة الإسلاميَّةِ ونشرها، وقد تَمَّ إعلان أقدم جزء من المدينة كموقع تُراث عالمي من قبل اليونسكو عام 1979.
معالم المدينة
في دِمشقَ ترى الحضارةَ والمنارةَ والعراقةَ، في دمشقَ معالمٌ بكل لغاتِ أهل الأرض، فجميعهم مرّوا من هُنا، وشيَّدوا صروحاً خالدة للتَّاريخ فيها، وهنا أسَّس الكنعانيُّونَ والفينيقيُّونَ مجدهُم، والفرس والأتراك والإفرنجُ والإغريقُ، وهُنا الأمويُّون بنوا للمدينة طابعها العربي، ومعالم الثَّراء من قصور وحدائق وأسواقَ وجوامع، ترى الجَّامع الأمويَّ الذي كان مركز إشعاعٍ ثقافي وحضاري وسياسي على مدار قرونٍ تعاقبت عليه حضارات، كما تعاقبت عليه جُل تلكَ العصور، فمن معبدٍ إغريقي، إلى كنيسةٍ عريقةٍ، ليتحوَّلَ بعدها لجامعِ أميَّة الكبير، والبيمارستان النوري، وهو اليوم مُتحفٌ للعلوم والطِّب العربي، وحمَّام نور الدِّين زِنكي في البزوريَّة، وهو من أقدم حمَّامات دمشق الكثيرة، وما يزال قائماً حتَّى يومنا هذا.
في دِمشق، القلعةُ ذاتِ الأبوابِ الأربعة ساحرةُ الجَّمال، ذات الأعمدةِ المُعرَّقة، والتي تحاوركَ عن التَّاريخِ كُلَّ ما مَررتَ من جانِب سورِها، هُنا في دِمشقَ تَرى الصَّليبَ يُعانقُ الهلال، جامعٌ هنا، وكنسيةٌ ملاصقةٌ له، هنا تُرفع الصَّلواتُ والقُدَّاسُ، وآذانُ الجَّوامعِ، كمقطوعةٍ موسيقيَّة روحيَّة وحيها السّماء، كمقطوعة لا يُمكن وصفها، لكنَّها تُعاش.
عزيزي القارئ، مهما تحدَّثتُ عن سحر تلك اللحظات، فأنا عاجزٌ عن نقل هيبة ووقار تلك اللحظات، وما عليك إلا سماعها بنفسك لتُخبِركَ عن كمِّ التعايشِ والأخوَّةِ بين الأديان، وبني الإنسان في مدينة السَّلام أرضِ الشآم.
من معالمها الجميلة أيضاً كنيسة حنانيا، وقصر العظم، وسوق مِدحَت باشا، ومُتحف دمشقَ الوطني، والتكيَّة السُليمانيَّة، والكنيسةُ المَريميَّة، وسوق الحميديَّة، وشارع الطَّويل، والبزوريَّة تراها مختصرةً لك بابل والهند في قلب خان عطارٍ يبيع التَّوابل فيها، كما قال تميم البرغوثي وهو يصف القدس العتيقة والعريقة، فدمشق والقدس يتشابهان كتوأمين، وعراقةُ التَّاريخِ واضِحة، فلو مررتَ بأزقَّة القُدس تخالُ نفسكَ في دِمشقَ، ولو شممتَ عِطر البخورِ في خانِ الزَّيت، تظنُ أنَّك في حارات دمشق العتيقة، كالقيمريَّة، وحي العمارة الدِّمشقي، والميدان وباب شرقي.
ومن معالمها الحديثة الفنادق الضَّخمة، والتي تُعطى للمدينة طابعها الحديث كالفور سيزونز، وسميراميس، والميريديان، والحدائقُ الغنَّاء الواسعة، والمُعدَّة بكل أساليب الرَّاحة للزوَّار، من دورات مياهٍ، وألعاب أطفال ومقاعد، فهي مخدومة ومبنية بأحدث الطُرُق العمرانيَّة الممزوجة بعراقة الغابات الطبيعيَّة، مثال لهذه الحدائق غابات الربوة التي تحوَّلت إلى حديقةٍ ضخمة تُدعى حديقة تشرين، والتي تُعتبر المُتنفس الأكبر لمعظم سُكَّان دمشق، ومن المعالمِ المحفورة بقلوبِ الدِّمشقيين جبلُ قاسيونَ الشَّامخَ، حيثُ تنامُ دمشقُ على رُباه مطمئنةً حالمةَ، إنّ جبل قاسيون يحتوي بعض الأحياء العريقة من أحياءِ دمشق، مثل حي المهاجرين، وحي رُكن الدِّين، وحي أبو رُمَّانة، والشِّيخ مُحيي الدِّين، وترتفع قمَّة جبل قاسيون أكثر من 1150 متراً عن سطح البحر.
ومن أجملِ ما يُميِّز دمشقَ ومعالمها، أبوابها الحصينة التي تُكلِّل المدينةَ كتاجٍ على عرش جمالها، فللمدينة أبوابٌ سبع بُنيتْ عبرَ العصور،ِ لتجعلَ من دمشقَ طوداً متيناً، وحصناً منيعاً في وجه الغزاة، وقد فُتحت هذهِ الأبواب في القرنِ الأوَّل قبلَ الميلاد، ودُعيت وفقاً للكواكب السَّبعة، وهي: (بابُ الفراديس، بابُ الجُنَيق، بابُ توما، بابُ شرقي، بابُ كيسان، باب الصَّغير، بابُ الجابية)، والبعضُ منها لا يزال في موضعهِ الأصلي، والبعضُ الآخرَ تمَّت إزالته.
وكانت صورُ هذه الكواكبِ السَّبعةَ المنقوشةِ من الحجر، مُعلّقةً عليها وهي: (كوكب عُطارد على باب الفراديس، والقمر على باب الجنيق، وكوكب الزُّهرة على باب توما، والشَّمس على الباب الشَّرقي، وكوكب زُحّل على باب كيسان، وكوكب المرِّيخ على الباب الصَّغير، وكوكب المُشتري على باب الجابية).
أمّا الأبواب الأخرى التي نسمع عنها في دمشق، وهي من معالمها الجميلة، فهي أبواب الحارات القديمة، مثل باب السريجة، باب زقاق البرغل، وباب مصلى، وبوَّابة الصالحيَّة، وبوَّابة الميدان، وهذه الأبواب كانت لِحماية الحارات الدمشقيَّة.
دمشق مُلهِمَة الكُتَّاب والشُّعراء
دمشقَ ليست مُجرَّدُ مدينة، أو عاصمةً عربيَّة آسيويَّة الملامح، دمشق تختصر الجمال في حديقةٍ دمشقيَّةٍ، وفي بيتٍ شاميٍّ عريق، دمشقُ دفترُ الذِّكرياتِ للعابرينِ والحالمينِ العاشقين، تجمعُ المتناقضات بسلاسةٍ وخِفَّةٍ بين المدينة المُتطوِّرةَ التي لا تنام، وبين المدينةِ الهادئة الرقيقة المُسالمة لليلٍ قمري، وصباحاتها كحبَّاتِ النَّدى المُقطَّر على شجر يسامينها، لم يزُرها شاعرٌ، أو رحَّالةٌ، أو أديب، أو زائر، أو سائحٌ إلا وفُتنَ بِجمَالِ طَبيعتها وطيبةِ شعبها، فجادت قرائِحُ الشُّعراءِ السوريينَ والعربَ في وصفِ دِمِشقَ وغوطتها منذُ القِدَم، فدعونا نستمتع ببعض أبيات الشِّعر عن دمشق لثُلّةٍ من شُعراء الأدب العربيِّ الأصيل.
هذا أمير الشعراء أحمد شوقي يصف جمالها قائلاً:
كادَ لروعةِ الأحداثِ فيها تُخالُ منِ الخرافةِ وهي صدقُ
ألستِ دمشق للإسلام ظئرا ومرضعةُ الأبوَّة لا تعق
وها هو أبو النوَّاس يقول في الغوطةِ:
يؤمّمنَ أرضَ الغوطّتينِ كأنّما
لها عِندَ أهلِ الغوطتين نذرُ
ولا ننسى المبدع الفلسطيني محمود درويش حين ينحت من كلماته أساطير عن دمشق، كقصيدته التي قال فيها:
في دِمَشْق
تسيرُ السماءُ
على الطُرُقات القديمةِ
حافيةً، حافيةْ
فما حاجةُ الشُعَراءِ
إلى الوَحْيِ
والوَزْنِ
والقافِيَة
في دِمَشْقَ
ينامُ الغريبُ
على ظلّه واقفاً
مثل مِئْذَنَةٍ في سرير الأَبد
لا يَحنُّ إلى بَلدٍ
أَو أَحَدْ…
ولا ننسى أدونيس العاشق حين يكتبُ:
ودمشقُ سرّة ياسمينْ
حُبلى،
تمدّ أريجَها
سقفاً
وتنتظرُ الجنينْ.
وحين نأتي لبوح أبناء دمشق الشُّعراء حين وصفوها، فتضجُّ الذاكرة بألفِ ألفِ شاعرٍ من أبناءِ دِمشقَ الذين ولدوا فيها، أو عاشوا فيها، تغنّوا بجمالها وفاخروا بانتمائهم إليها.
فها هو الشاعر خير الدِّين الزركلي يقول مفتخراً في قصيدة” أنا من دمشق”:
قالتْ أمِن بَطحاءَ مكّةَ جارَنا
قلتُ الهناءَ لمن دعوتُ بجاركِ
أنا مِن دِمشقَ وقد ولدتُ بغيرها
وسكنتُ أخرى والحنين لداركِ
والحنينُ العتيقُ لنزار قباني ابن دمشقَ، وشوقهُ لياَسمِينها ونَسماتِ عليلها، ترجمهُ في الغُربةِ نقوشاً خالدةُ على جُدرانِ الرُّوح، فالحُب عند نزار خارطةٌ عاصِمتها دمشقَ، فيقول في قصيدةٍ بعنوان
“من مفكِّرة عاشق دمشق”:
فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهرِ
الهُدُبا فيَا دمشقَ لماذا نبدأُ العتبا
حبيبتي أنت فاسّتلقي كأغنيةٍ
على ذراعيَ ولا تستوضحي السببا
يا شامُ إنّ جراحي لا ضفافَ لها
فمسّحي عن جبيني الحزنَ والتعبا
دمشقُ العربيَّة وقفت كالطُّودِ، كقاسيون في وجه العواصِفِ والمِحَن، وما انحنت، أبداً لأنَّها تحمل بيارق العِزَّة والكرامة، بيارق المجد العربي الذي لم ولن يأفل أبداً، هذا هو لسان حال كلِّ شاعرٍ وفنّان وإنسان، امتلأ قلبه بعشق دمشق، فانطلقت من أعماقه أجمل القصائد وأعذب الألحان، وامتزجت جميعها في ريشة فنان صبغ سماء دمشق بأجمل الألوان.
وهذه قصيدة شخصيَّة لي أنا، دوَّنتها بدماءِ قلبي، وخططتُ حروفها بحزنٍ وألم، وامتزجت دموعي ببعض الحبر فوق أوراقي، لم أكتبها مُعارضاً أو موالٍ، فقط مُحبَّاً لدمشق، موالٍ لشموخ قاسيونها، معارضاً لركوع قلعتها، وهذه بعضاً من أبياتها:
ثكلى دمشقُ وحزنٌ كلُّ ما فيها
لا الوردُ ينثِرُ عِطرَهُ، ولا الأقاحِ أقَاحيِها
الصَّمتُ يكسرُ قيدهُ، ويلومُ من فيها
ماذا فَعلتُم بالشآم إنَّ الجِراحَ تُدميها
واللهِ إنَّ القلبَ ناح والعينينِ تبكيها
عَارِض وأيّد كَما تَهوى، لكِن حذارِ تُؤذِيها.
عزيزي القارئ، يطول البوح، والجَّرح ينزف أكثر وأكثر، حين نتحدَّث عن دِمشقَ، أعلم أنَّني مهما ركِبتُ من طائرات، وقطعتُ من مُحيطاتٍ ورقصتُ بين القارَّات، ما زلتُ أتسكَّعُ في الزِّقاقِ الشَّاميِ الذي ولدتُ فيه، وترعرعت جيئةً وذهاباً منذ طفولتي وحتَّى أموت، ومهما اغتسلت في مياه التايمز، والدّانوب والسِّين والراين، لا تزال مياه بردى تُبلِّلني وحدها ولا تجفُّ عنِّي.
أعرفُ أنَّني أينما كُنت، ما زلتُ في بيتيَ الدِّمشقيِ، تحتَ ظلِّ عَينيكَ يا حبيبي الوَحيد، يا قاسيونَ الأبد، وَمهما ساءتِ الأحوالُ في دمشقَ في الفترةِ الأخيرةِ، نتيجةً لسوءِ الأوضاعِ السياسيَّةِ والأمنيَّةِ هُناك، حتَّى حلَّ الخراب محلَّ العمار، وتمزَّقتْ دمشق بحرب عبثيَّة طالتِ البشرَ والحجر والشّجر، وتحطَّمَ معها قلوبُ الشَّعبِ السوري، ولكن ستظل دمشقُ في التَّاريخِ المدينة المُزدهرةَ التي تغنَّى بِها الشُّعراءُ والأدباءُ من كل أصقاعِ الأرض، وستقوم كما العنقاءِ من الرَّمادْ مُبشِّرةً بالخلاص، ستعودُ دمشق كما كانت دوماً، درَّة الشَّرقِ ولؤلؤة البِلاد، عضد العربِ، وقلعتهمُ الصَّامدة كالطُّود المتين، وقلبَ عروبتهمِ النابضْ.