إنَّه شاعر العرب أبو الطيب المتنبي، داعية الفخر وعزَّة النَّفس الأوَّل في المُخيِّلة العربيَّة، وشعره من أشدِّ الشِّعر العربي تأثيراً على الأدباء والمُثقَّفين والشُّعراء العرب عبر العصور.
شاعر الكلمة الحُرَّة، والفروسيَّة والشموخ، أبدع من حروفه حِكَماً ما زالَ الدَّهر يُردِّدها على لسان كُلِّ عاقل، أخال كلماته على لسان كُلِّ عربي، يا ابن الكرام سَترى أشعارهُ وحِكمهُ على ألسنة كلِّ الناسِ، سواء عن درايةٍ بأنَّها أبيات شعرٍ للمتنبي، أو عن غير دراية.
فمن هو هذا الشاعر العظيم؟.
من هو أبو الطيِّب المتنبّي
إنَّهُ أبو الطيّب أﺣﻤﺪ ﺑﻦ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺑﻦ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺼّﻤﺪ ﺍﻟﺠﻌﻔﻲ الكندي الكوفي، (والجعفي، نسبةً لقبائلَ قحطانيَّة من اليمن، وهم الجعفيين)، (والكندي، نسبةً لحي كندة، وليس نَسباً لقبيلة الكنديين)، (والكوفي نسبةً لميلاده في مدينةِ الكوفة العراقيَّة).
كانَتْ ولادته سنة 303هـ/915م، والده الحسين الجعفي كان يعمل حاملاً لخزانات المياه، وكان رجلاً محبَّاً لولدهِ، توفيت والدته وهو صغيرٌ، فعاش يتيماً.
نبغَ أبو الطيِّب كشاعرٍ منذ التَّاسعة من عمرهِ، حيث رافق الورَّاقين والنسّاخين، فكان شغوفاً للعلم والمطالعة والقراءة، وهناك طرفةً جميلة حدثت مع المتنبي وهو في سنِّ الطفولة؛ تُظهر من هو هذا النابغة والاستثنائي منذ الصغر، فقد جاء يوماً رجلاً ثريَّاً إلى أحد الوراقين طالباً منه نسخ كتابٍ قيِّمٍ بين يديه، فما كان من أبي الطيِّب إلا أن تناول الكتاب من يد الرجل، وبدأ يقرأ فيه بكلِّ شغف، وما هي إلا نصف ساعةٍ، وبينما كان الرجل يتفق مع الورّاق على شكل ونمطِ النُّسخِ، والسِّعر والورق، حتَّى أعاد المتنبِّي الكتاب للرَّجل فمازحه الأخير مستهزئاً:
“وهل فهمت أو حفظت شيئاً من الكتاب يا فتى؟ إنِّي أراك تمعَّنت كثيراً في الكتاب”
فردَّ عليه المُتنبِّي قائلاً: “لقد حفظته وفهمته، وما عاد لي حاجةٌ به”
فردَّ الرَّجُل متحدياً: “إن كنت قد حفظت الكتاب فهو لك رغم ندرته، وسعره الباهظ”
فما كان من المُتنبِّي إلا أن قال له: “افتح أيَّ صفحةٍ من كتابك، واسأل يا رجل”.
فثار الرَّجل حنقاً وبدأ يسأل المتنبِّي في صفحاته، وقد بلغ الكتاب ثلاثين صفحة، فما كان من المُتنبِّي إلا أن جاوبه وبكلِّ دقَّةٍ على كل ما طرحه واستفسر عنه، فصمت الرَّجل متجهِّماً خجلاً، وترك الكتاب صاغراً للمُتنبِّي, وكل من في سوق الورَّاقين واقفاً مذهولاً لذكاءِ ونبوغِ هذا الفتى.
نعم فهذا هو أبو الطيب، فقد كان حُرَّاً أبيَّاً، لا يعرف الخوف ولا يعرف السكوت أمام مُدَّعٍ أو مُتحذلق، ولذلك خلق له طبعهُ الحُر أعداءً وحُسَّاداً وحاقدين كثر، كما خلق له مُعجبين، وعاشقين لشعره متأثرين بشخصيَّته مُقلِّدين لشعره.
المتنبي العاشق
كان المتنبي فارساً نبيلاً، وعاشقاً صادقاً، فلم يسجِّل التاريخ له أنَّه زيراً أو مزواجاً، أو شاعر حُبٍّ ولهو، لكنَّه حين أحبَّ خوله أخت سيف الدولة، كان حُبَّاً عُذريَّاً يفيض عنفواناً، وكتب أجمل قصائد الحب، ولكنَّه كان نبيلاً لم يذكرها علانيةً، وذلك لحُبِّه لأخيها سيف الدَّولة، ومنعاً لإحراجهِ، وخوفه على سمعتها، ولكي لا يجعلها قصَّةً ورواية على ألسنة أهل حلب، لكنَّ حُبَّه كان جيَّاشاً، فعَّبر عنه بقصائد تعتبر من أجمل ما كُتِبَ عن العشق، فكيف لا، وهو أشعرُ العربِ وأبلغهم وصفاً، فعلى سبيل الذِّكر لا الحصر، أذكر بيت شعرٍ والله ما أنجبت العرب مثله في الغزل:
لا السيف يفعلُ بي ما أنت فاعله
ولا لقاء عدوِّي مثل لقياكِ
لو بات سهمٌ من الأعداءِ في كبدي
ما نال مني ما نالتهُ عيناكِ
لكن الخلافات بينه وبين سيف الدولة، والوشايات الكثيرة بينهما أبعدت المتنبي عن خولة، ولم يتكلَّل حُبَّه لها بالزَّواج، وحين جاءه خبر وفاتها؛ كان النَّبأ كصاعقةٍ حفرت في وجدانهِ عميقاً، فلم يستطع أن يلجُمَ حُزنه وعشقه، ورثاها بأعظم قصيدة شعرٍ كتبت لعشيقةٍ قد يفقدها عاشقٌ، ويُغيِّبها الثرى عنهُ، فكتب فيها مرثيةً أخالها من أجمل مرثيَّات العرب، هذه بعضاً من أبياتها:
ﻃَﻮﻯ ﺍﻟﺠَﺰﻳﺮَﺓَ ﺣَﺘّﻰ ﺟﺎﺀَﻧﻲ ﺧَﺒَﺮٌ
ﻓَﺰﻋﺖُ ﻓﻴﻪِ ﺑِﺂﻣﺎﻟﻲ ﺇِﻟﻰ ﺍﻟﻜَﺬِﺏِ
ﺣَﺘّﻰ ﺇِﺫﺍ ﻟَﻢ ﻳَﺪَﻉ ﻟﻲ ﺻِﺪﻗُﻪُ ﺃَﻣَﻼً
ﺷَﺮِﻗﺖُ ﺑِﺎﻟﺪَﻣﻊِ ﺣَﺘّﻰ ﻛﺎﺩَ ﻳَﺸﺮَﻕُ بي
تعثّرت به في الأفواه ألسُنُها
والبُردُ في الطُرق والأقلام في الكُتُبِ
أبو المُحسّد، الزوجُ الوفي
وهكذا نجد أن المتنبِّي كان عاشقاً نبيلاً، ومخلصاً وفيَّاً، ما همَّه المجون ولا النِّساء، وعلينا أن نتذكَّر جيِّداً، وننصف وعيه وعدله مع المرأة، فلم يحتقر المُتنبِّي المرأة يوماً، ولم يعرض عنها إلا لأنَّ الحرب والمجد والطموح للعلياء غايته، ولم يكن كباقي الرِّجال في عصره بموضوع النِّساء والحب، فلم يجد أبو الطيِّب فرقاً بين الذَّكر والأنثى، ولم يعطي القوامة للرَّجل على المرأة، فهو الذي نفى أن يكون للتذكير علوَّاً على التأنيث في قوله:
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
ولا نعرف عنه إلا أنَّه قد تزوَّج من حُرَّةٍ عربيَّة تُدعى (أم مُحسّد)، دمشقيَّةُ الجمال سوريَّة النَّسب، وأنجبت له غُلاماً يُدعى مُحسّد، ومُحسّد هذا فارسٌ شجاعٌ كأبيه، وعلى ما يبدو بأنَّ المتنبِّي كان (علمانيَّاً) بالمعنى الحديث و(ربوبيّاً) بالمعنى الفلسفي، وما تسمية ولده البكر بالمُحسّد إلا تمجيداً للآلهة السوريَّة، فمُحَسّد اسم آلهة قديمة، ومن المُستَعجبِ أن يُسمِّي رجُلاً مُسلماً ابنه باسم (صنم) حسب تعبير المسلمين للآلهة القديمة، ولم يذكر التاريخ الكثير عن زوجة المتنبِّي وأولاده إلا حادثة مقتل المُحَسّد مع أبيه في واقعة القتال بين أبي الطيِّب وفاتك الأسدي.
شاعرٌ قتلهُ شعرهُ فكان شهيد الشِّعر
يقول أغلب الباحثين أنَّ أبي محسّد أبو الطيِّب المتنبِّي قد قتل وهو عائدٌ من بلاد فارس على يد فاتكِ الأسدي، وهو خال (ضبَّة بن يزيد الأسدي العيني)، وقد كان قاطع طريقٍ سفَّاحٌ ماجنٌ، ففي كتاب (تجارب الأمم) لابن مسكويه ورد:
“فإنَّه ممَّن يسلك سبيل الدَّعارة، ويسفك الدِّماء، ويخيف السُّبل، وينهب القرى، ويُبيح الأموال والفروج، وانتهك حرمة المشهد بالحائر، فلمَّا أطلّ عليه العسكر هرب بحشاشته إلى البادية، وأسلم أهله وحرمه فحصل أكثرهم في الأسر، وملكت عين التمر“.
ومن هنا نعلم أنَّ ضبَّة الأسدي تجتمع فيه أقذر الصفات، وأمُّه فاجرةٌ ذات صيتٍ سيِّء، ولم يكتف ضبَّة هذا بقطع الطرق والسَّلب والقتل، بل تجاوز ذلك وتجرأ على المقامات الدينيَّة، ووصل به الأمر إلى نهب الحائر الحسيني ومقام الحسين بكربلاء، فما كان من المُتنبِّي إلا وأن هجاه بقصيدةٍ لاذعة تحفر بصميم الكرامة، ولم يبق ولم يذر، حتَّى أنَّه عيَّره بأمِّه الفاجرة.
يُقال أنَّ فاتك الأسدي خال ضبَّة مثل ابن أخته، فما شابه الولد إلا خاله، ولذلك يُشكِّكُ البعض بأنَّ مقتل المُتنبِّي كان على يد فاتك الأسدي، فلم يكن فقط لأنَّ المتنبي ذكر أخته بقصيدة الذم والهجاء، حيث راح البعض على أنَّه مبعوثٌ من قبل الإخشيديين، أو من قبل أحد أعداء المُتنبِّي الكُثيرين، ولكن تعدَّدت الأسباب والموت واحدٌ على المُتنبِّي .
يقول طه حسين بأنَّ كرامة وعِزَّة وعنفوان المُتنبِّي، لم تشفع له بأن يُبادر للهرب؛ لأنَّ المعركة لم تكن مُتكافئة، فالمُتنبِّي كان بصحبته ولده المحسّد وحفيده وبعضاً من الخدم، وفاتك الأسدي معه ثلاثون رجلاً مُدجَّجين بالسِّلاح والعتاد والرِّماح والسِّهام، وعندما قرِّر المُتنبِّي أن يفرَّ من المعركة، لو فعل هذا فلا يُعتبر جُبناً أو تخاذل، فالحرب كرٌّ وفر، والهروب من الموت المُحتم حكمة، ولكن……اشرأبت نفس المحسّد قهراً، وهاج عنفوانه على أبيه، وخاطبه كما يذكر أبو العلاء المعرِّي:
“أتهرب من وجه القتال يا أبي وأنت أفرس الناس وأشجع الناس، لا والله يا أبي لا تهرب، الست من قلت أنَّك للوغى نِدٌّ، ألست من قلت:
الخيلُ والليل والبيداء تعرفني
والسّيفُ والرُّمح والقرطاسُ والقلمُ
فحينها أمسك لجام فرسه، وشدَّها بعنفوانٍ، فوقفت واتَّجه بنظره إلى ولده قائلاً:
“إيّهٍ مُحسّد…إيّهٍ مُحسّد، قتلتني قتلك الله، أنا من قلت هذا، والله لست بهاربٍ إلا خوفاً عليك وعلى حفيدي، إلى الوغى يا مُحسَّد“.
وكرَّ على فاتكٍ الأسدي كما الأسود الضاريات تنهش كبد فريستها، وقاتل مع مُحسّد قتالهم الأخير، وأبى إلا أن يموت بشعره وعلى خيله كما الفرسان بطلاً يمتشق السيف مقداماً لا يهاب الموت، ضرغاماً سيِّداً حُرَّاً أبيَّا.
قتل المتنبي الكثير من فرسان فاتك، لكنَّ الكثرة غلبت الشجاعة، فقُتِلَ مع ابنه محسّد، وغلامه الصغير، وكل من معه.
بعض حكم وأشعار المُتنبِّي
لقد كان المُتنبِّي حكيماً عارفاً، ورحالهً من قُرَّاء أدب الأمم التي حوله، حيث جاب بلاد الفُرس، والتُركمان، والصقلاب، والمصريُّون، والمغاربة، شرَّق وغرَّب وتعمَّق في دُرر الحياة، ونَضحت مِنهُ حِكماً وشعراً، وهذا بعض شعر المُتنبِّي المشبع بالحكم:
ما كُلُّ ما يتمنَّى المرء يُدركهُ
تجري الرِّياح بما لا تشتهي السُّفن
لا تغرقنَ بـحزنك يا فتــــى
فــــرُبَّ ضــــارةٍ نـافــــــعة
أغاية الدِّين أن تحفُّوا شواربكم
يا أُمَّهً ضحكت من جهلها الأُمم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللَّئيم تمرّدا.
ومن يهن يسهل الهوان عليه
ما لجــــرحٍ بميّــِتٍ إيــــــــلام.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم.
إذا غامـــرت في شرفٍ مــــروم
فــــــلا تقنع بـــما دون النُّـــجوم
فطعم الموت في أمرٍ صغيرٍ
كطعم الموت في أمـــــرٍ عظيــــم
ختاماً يا أبو الطيِّب
لا نُغالي إذا قلنا أنَّه لو جاءت كُلُّ أُمَّةٍ بشاعرها لأتت العرب بالمُتنبِّي، فإن كان الأدب الإنكليزي يتمثَّل بشكسبير، والأدب الرُّوسي يتجلَّى بالعظيم بوشيكن، وتجلَّى الأدب الهندي في شاعرٍ وأديبٍ لكان طاغور، وإن كان للأدب اللاتيني كاتبٌ لكان ماركيز، فإن للشعر العربي شاعرٌ يُحاكي مجد الشِّعر العربي عبر العصور؛ ألا وهو (أبو الطيِّب المُتنبِّي أبي المُحسّد)، وهذه الحقيقة يكشفها شِعره الذي ما فتئ يُشغل النَّاس حتَّى الآن.
فلم تعرف العرب شاعراً أعرف بلغتها، وأعلم بتاريخها، وألمّ بثقافتها أكثر منه، وكأنَّه قد قرَّر عبقريَّته وانفراده بعرش الحكمة الشعريَّة العربيَّة، والتفرُّد في الإبداع، هذه الحقيقة كانت وما زالت منذُ عشرة قرونٍ لليوم نظرة الباحثين تنحني لنتاجه الأدبيِّ العظيم، قد يختلف أحدهم على تفصيلٍ لا يتوافق والأفكار الحديثة للبشريَّة المتحضِّرة؛ كطه حسين حين لقَّب كافور بالعبد والزِّنجي، وكان طه حسين مُحقَّاً، ولكنَّها لا تؤخذ على المتنبي في عصرٍ كان العبيد والخدم والغلمان في كل بلاطٍ في بلاد المسلمين، أو قد لا يقبله من زاويةٍ مُعيَّنة شخصيَّة بحياة المُتنبِّي، كلٌّ حسب معتقداتهم المذهبيَّة، فيتحامل عليه بالشِّعر حقداً عليه بالمذهب والفكر، ولكنَّ شعر أبي الطيِّب مُتَّفق عليه على أنَّه أعظم شعرٍ عربيٍّ خطَّه شاعرٌ عبر العصور:
أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردِها ويسهرُ الخلقَ جرّاها ويختصمُ